تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 421 ـ 435
(421)
أسداً بثعلب رمحه ؟ وكم فلِّ عدداً بمبين فتحه ؟ وكم أغنى عائلاً بعد سوء حاله ؟ وكم آثر سائلا بقوته وقوت عياله ؟
    كالبدر المنير وجهه عند السؤال ، وكالبحر الغزير كفّه عند النوال ، وكالشمس الطالعة عند حلّ المشكلات ، وكالهضبة المانعة عند حلول المعضلات ، وحلّة إمامته ( إنَّما وَلِيُّكُم ) (1) ، وحلية زعامته ( قُلْ لَا أسأَلُكُمْ ) (2) ، وجبريل في وقائعة مكتب كتائبه ، وميكائيل في حروبه يعجب من ضرائبه.
    فهو علم الإسلام ، وعالم الأنام ، وحبر الزمان ، وحبوة المنّان ، من تسمّى بإمرة المؤمنين سواه فالتراب بل الكثكث بفيه ، ومن انتمى في الشرف إلى غير علاه فالوبال والنكال له وفيه ، فما عسى أن أقول في وصف سيّدٍ نفسه نفس سيّد الأنبياء ، وعرسه سيّدة النساء ، وغرسه أئمّة الهدى ، وشجرته من دوحة الأصفياء ، راهب الليل ، ومجاري السيل ، ومدوّخ كلّ عنيد ، ومشدخ كلّ صنديد ، صاحب بدر واُحد وقاتل عمرو بن ودّ ، ضربته يوم الأحزاب تعادل عمل الاُمّة إلى يوم الحساب.
هو الامام الّذي ما شانه نجل من وجهه قمر في لحظه قدر إذا مشى الحين والسيف في يده ولا نبيّ قلبه عن قرنه فشل في سخه أجل من عفوه أمل حسبت بدر الدجى في كفّه زحل

1 ـ سورة المائدة : 55.
2 ـ سورة الشورى : 23.


(422)
ما زال في الأرض أبطال فمنذ نشأ ال‍ ينبي ببدر فقال المبصرون له سل سلّة البيض من سلّ النفو تراه يقطع آجال الكماة إذا حسامه ينثني من عند هزّته للسيف في يده ضحك وليس فم سائل به في الوغى والموت يقذفه والبيض إن واصلت بيض الرؤوس ترى والمشرفية عند الضرب مشرفة والخيل راكعة في النفع ساجدة والليل نقع وهاتيك الأسنّة قد ‍وصيّ أبطلها يوم الوغى بطل جلاله ملك ذا الشخص أو رجل س بها من تخطّت به الخطّية الذبل ما واصل السيف ضربٌ منه متّصل كأنّه من طلى أعداءه ثملُ وللرؤوس بكاء منه ولا مقل والرعب مقتبل والضرب مختبل لها الرؤوس عن الأجساد تنتقل والسمهريّة عند الطعن تشتعل لها من الدم ثوب مسبل خظل يلمعن فيه نجوم ثمّ او شعل


(423)
هناك تلقى به سيفاً بمضربه جهل على معشر للحقّ قد جهلوا

خطبة مشتملة على السور القرآنية :
    ذاك صدّيق النبيّ الأكبر ، ووصيّه الأطهر ، أبي شبير وشبّر ، المسمّى بحيدر ، وما أدراك ما حيدر ؟ هو الكوكب الأزهر ، بل القمر الأنور ، الّذي فضائله في فاتحة الذكر مذكورة ، ومناقبه في اُمّ الكتاب مسطورة.
    ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابِتْغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ ) (1) في سورة البقرة بفضله قاطعة ، وفي آل عمران رجالاً ونساء لشرف رجاله ونسائه خاضعة ، ووجوه المحامد مصروفة إلى مائدة إنعامه ، وأعراف أنفاله ، والبراءة من النّار لا تكتب إلّا للمخلص بولائه وولاء آله ، ويونس في الظلمات دعى ربّه بجاهه وحقّه ، وهود يوم الطاغية توسّل بإخلاصه وصدقه ، ونجىّ به يوسف من كيد إخوته لمّا أرعدوا وأبرقوا ، ( وألْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبّ ) (2) وبينه وبين أبيه فرقوا ، وصارت النّار برداً وسلاماً على إبراهيم لكونه في صلبه ، ولا جلس من حجر إلّا من حرّها ، ( وأتَى أمْرُ اللهِ ) (3) إليه بوجوب حبّه.
    وكشف الجليل سبحانه ليلة الاسراء لنبيّه الحجب من الملكوت الأعلى حتّى شاهد من وراء الحجب جلال بهجته ، وأنزل عليه الكتاب ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً ) (4) بفرض إمامته ، وضربه مثلاً كابن مريم فأذعن من أذعن ، وصدّ
1 ـ سورة البقرة : 207.
2 ـ سورة يوسف : 10.
3 ـ سورة النحل : 1.
4 ـ سورة الكهف : 1.


(424)
من صدّ ، وفضّله نبيّنا طه على سائر الأنبياء ، فقبل من قبل ، وردّ من ردّ ، وائتمنه صلّى الله عليه وآله على تأدية براءة يوم الحجّ الأكبر وأن يفيد إلى المشركين عهدهم ، فأقرّ الله عيون المؤمنين في ذلك اليوم بنور فرقانه ، وأعلى مجده وأثنى عليه في محكم تنزيله.
    فما عسى أن يقول البلغاء والشعراء في وصفه ، وآتاه ملكاً يفوق ملك صاحب النمل وأيّده بلطفه ، قصص الذكر في بدر واُحد بذكر شجاعته ناطقة ، وأحاديث مصير دين الشرك كالعنكبوت يوم كسرة الأصنام صادقة ، وللذكر موافقة ، بطلت أبطال فارس والروم عند ذكر شدّته وقوّته ، وغدت حكمة لقمان كالقطرة في اليمّ في جنب حكمته ، وامرت أحكام البلاغة بالسجدة لكعبة بلاغته.
    كم سبا بفاطر حسامه في حروبه من المشركين ذرّيّة ونساء ؟ وكم أباح الله للفقراء والمساكين من فيض أكفّه ثراء وغناء ، ( وَكُلَّ شَيءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ ) (1) راية مجده ، ( وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ) (2) في سورة الصافّات آية عهده.
    كم صاد بثعلب رمحه في حروبه أسداً ، وفرّق زمراً ؟ وكم أغنى بطوله عائلاً ، وآثر فيه من صنائعه أثراً ؟ في الذكر الحكيم آيات مناقبه فصلّت ، وفي سورة الشورى تفاصيل مراتبه اُجملت ، زخرف حجّ أعدائه كالدخان يعلو ثمّ يذهب جفاء ، وأعلام شريعته تسمو إذ غيرها تصير هباء.
    لمّا جعله سبحانه صاحب أحقاف الأعراف في الاُخرى ، وأيّده في قتاله
1 ـ سورة : يس : 12.
2 ـ سورة الصافات : 24.


(425)
بالفتح ، وأسكنه حجرات الرئاسة الكبرى ، صار ملكه شاملاً بسيط بساط الأرض من قاف إلى قاف ، وسلطان أعدائه كرماد اشتدّت به الذاريات بشدّة الاعصاف ، فضلَّ صاحب طور سيناء في جنب فضله كفضل النجم بالنسبة إلى القمر ، وواقعة سيفه إلى الايمان بالرحمن أشهر من أن تشهر ، كالحديد قلبه في مجادلة عُصب الضلال ، وكالبحر كفّه لكن فيضه بالعذب الزلال.
    شفيعنا إلى ربّنا في حشرنا ، ومعاذنا يوم معادنا ونشرنا ، قلوبنا ممتحنة بحبّه إذ اُوقفنا كصفّ الجمعة بين يدي إلهنا ، وصار المنافقون في تغابن إذ نرى مقام إخلاصنا ، لما التزم صلوات الله عليه بطلاق الدنيا وتجرّعها على نفسه آتاه الله ملكاً عظيماً وأيّده بروح قدسه ، وأجرى قلم القدرة على لوح المشيّة بدواُمّه إلى حين حلول الحاقّة الكبرى ، وزاده ذوالمعارج بسطة في العلم والجسم فما أحقّه بالمجد وأحرى ، سأل نوح ربّه بحقّه فنجى من الطوفان والغرق ، وإليه يفزع الجنّ والإنس إذا حسرت الأنام واُلجم الخلق العرق ، جعل المزّمّل المدّثّر بأمر الله الرئاسة العامّة فيه وفي نجله إلى حين حلول القيامة الطامّة ، يوم ينظر الانسان ما قدّمت يداه (1) من ولائه وحبّه ، وترى مرسلات العذاب آخذة أعداءه إلى النّار بإذن ربّه ، فهو النبأ العظيم الّذي هم فيه مختلفون (2) ، والعهد المأخوذ في عالم الذرّ فهم عنه مسؤولون.
    فيا حاسد صيّرت مدائحي له روحه في النازعات وقلبه أعمى ، وكوّرت إنسان بصره عن ضوء شمس الحقّ أعشى ، بلت كبدك إذا السماء انفطرت من رائق شعري ، وعيناك إذا النجوم انكدرت من فائق نثري ، رمتَ تطفيف
1 ـ إشارة إلى الآية : 40 من سورة النبأ.
2 ـ إشارة إلى الآية : 2 و 3 من سورة النبأ.


(426)
مكيال فصلي فانشقّت هامة فؤادك ، وتبرّجتَ في بروج تيهك فهوى طارق مرادك ، رمتَ أن تكون الأعلى على جواد فصاحتي فصرت حامل الغاشية ، وأردت إخفاء فجر بلاغتي فصارت حمقتك في البلد فاشية.
    لمّا أشرقت شمس فضلي كاشفة ليل الضلال بضحاها ، انشرحت صدور المؤمنين فما أحلاها في قلوبهم وأجلاها ، وما عسى أن أقول في وصف من التين والزيتون بفضله نطقت ، والدنيا والآخرة لذرّيّته خلقت ؟ ناداني ربّي في سرائري : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (1) ، وانطق بمدح وليّك فما أعلى قدر من يمدحه نطق ، بيّنه دعواك جنّة لذي معدلة ، وأقدام أعدائك عن طريق الحقّ مزلزلة ، لا تخف عاديات قارعتهم فهم الّذين ألهاهم التكاثر وحبّ الرئاسة ، وفتنتهم عصر الدنيا وطلب النفاسة ، حتّى صار كلّ منهم همزة لمزة قد جمع مالاً وعدّده ، يحسب أنّ ماله أخلده (2) ، ( أَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) (3).
    لمّا على ربّهم تكبّروا ؟ أمّا سمعوا ما حلّ بقريش لمّا على نبيّهم تجبّروا ؟ صار ماعون شركهم مكفو في بدر بكفّ صاحب الكوثر ، وناداهم الحقّ سبحانه ، سحقاً لمن أصرّ على الجحد بصاحب الفتح في الأحزاب وخيبر ، وتبّاً لمن نازع من فضله مَن أهل التوحيد وفضله من فلق الصبح أشهر ، وأضحى مقدّماً عليه في الناس من لا يعادل شسع نعل عبده قنبر.
    هذه الّذي أوردت ذرّة من طود دلائله ، وصببت قطرة من بحر فضائله ،
1 ـ سورة العلق : 1.
2 ـ إشارة إلى الآيات : 1 ـ 3 من سورة الهمزة.
3 ـ سورة الفيل : 1.


(427)
وذكرت قليلاً من كثير من حلائل مناقبه ، وأسمعت نزراً من غزير من فواضل مراتبه ، هو الّذي أجلبت المدعوّة باُمّكم على حربه ، وكشفت عن ساق عداوته وثلبه ، ونكثت بيعته ، وقتلت شيعته ، وخالفت أمر ربّها وبعلها ، وأجلبت على هدم الإسلام بخيلها ورجلها ، فلعنة الله على فرعها وأصلها وقومها وأهلها ، أجلبت على حرب أشرف العالمين قبيلاً وأقومهم قيلاً ، الّذي من استمسك بحبل ولائه فقد ابتغى إلى ذي العرش سبيلاً (1) ، الّذي أنزل الله فيه وفي أهل بيته ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (2).
    عن رسول الله صلّى الله عليه وآله : يا عليّ ، ما ينتظر أشقى هذه الاُمّة فيضربك على هامتك ضربة يخضب منها لحيتك ؟
    وروي أيضاً عنه صلّى الله عليه وآله : يا عليّ ، كأنّي بك وأنت قائم تصلّي لربّك وقد انبعث أشقى الأوّلين وأشقى الآخرين ، شقيق عاقر ناقة ثمود ، فضربك على هامتك ضربة خضب منها لحيتك.
    قال أمير المؤمنين : فقلت : يا رسول الله ، أفي سلامةٍ من ديني ؟
    قال : نعم ، في سلامةٍ من دينك.
    يا عليّ ، من قتلك فقد قتلني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن سبّك فقد سبّني ، لأنّك منّي وأنا منك ، طينتك طينتي ، أنت أبو ولدي ، وخليفتي على اُمّتي في حياتي وبعد موتي ، اُقسم بالله إنّك أمير المؤمنين وحجّة الله على
1 ـ إشارة إلى الآية : 42 من سورة الاسراء.
2 ـ سورة الأحزاب : 23.


(428)
الخلق أجمعين (1).
    روي أنّ أمير المؤمنين قال لابنته اُمّ كلثوم ليلة ضرب : يا بنيّة ، إنّي أراني قلّ ما أصحبكم.
    قالت : وكيف يا أبتاه ؟
    قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يمسح الغبار عن وجهي ويقول : يا عليّ ، لا عليك لا عليك ، قضيت ما عليك.
    قالت : فما مكثنا حتّى ضرب تلك الليلة.
    وفي رواية أنّه قال : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله يشير إلى بكفه : يا علي إلينا إلينا ، فما عندنا خير لك (2).
    ولمّا فاز صلوات الله عليه بدرجة الشهادة ، وحاز دوحة السعادة ، قال مولانا وسيّدنا السبط التابع لمرضاة الله :
أين من كان لعلم ال‍ أين من كان إذا ما أين من كان إذا نو أين من كان دعاه ‍مصطفى في الناس بابا ؟ أقحط الناس سحابا ؟ دي في الحرب أجابا ؟ مستجاباً ومجابا (3)
    غيره :
قام في المحراب لله يناجي فانبرى أشقى الورى نجل الزيوف

1 ـ انظر : الأحاديث الغيبيّة : 1/53 ح 23. وقد تقدّم مثل هذا الحديث في المجلّد الأوّل.
2 ـ انظر : الأحاديث الغيبيّة : 2/137 ح 431.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 3/313.


(429)
فلق الهامة من خير وصيّ وأذاقوا الفتى السمّ عمداً فاز بالزلفة في الشهر الشريف لعنة الله على الرِّجس المديف
* * *
يا آل أحمد ماذا كان جرمكم تلقى جموعكم صرعى مشتّتة وتستباحون أقماراً منكّسة ما للحوادث لا تعنو بظالمكم ؟ منكم طريد ومقتول على ظمأ ومن محرّق جسم لا يزار له فكلّ أرواحكم بالسيف تنتزع دون الأنام (1) وشمل الناس مجتمع تهوى وأنفسها (2) بالسمر تنتزع ما للمصائب عنكم ليس ترتدع ؟ ومنكم دنف بالسمّ منصرع قبر ولا مشهد يأتيه مرتدع (3)
* * *
يا آل بيت محمد وجدي بكم ما للمصائب أنشبت أظفارها من كلّ ناحية عليكم نائح من ذا أنوح له ومن أبكي ترى قد قل عنه تصبّري وتجلّدي فيكم فبين مطرّد ومشرّد ؟ ينعاكم في مأتم متجدّد تبعاً لكم يا آل بيت محمد

1 ـ في المناقب : بين العباد.
2 ـ في المناقب : وأرؤسها.
3 ـ الأبيات للزاهي ، المتوفّى سنة 352 ه‍ ، أخرجها المحمودي في زفرات الثقلين : 2/42 عن مناقب ابن شهراشوب : 2/214.


(430)
أعلى قتيل الملجمي وقد ثوى أم للّذي للسمّ اسقي عامداً أم للعطاش مجندلين على الثرى أم للرؤوس السائرات على القنا أم للسبايا من بنات محمد متخصّباً بدمائه في المسجد أم للغريب النازح المتفرّد ؟ من كلّ كهل سيّد ومسود ؟ مثل البدور إذا سرت في الأسعد ؟ تسبى مهتّكة كسبي الأعبد (1)
    وثنّ بابنة آكلة الأكباد الزنيم الطاغي ، وابن هند الأثيم الباغي ، رأس العصابة الأمويّة ، وابن الفاجرة البغيّة ، كيف أجلب على حرب أمير المؤمنين ، وقتل أعلام المهاجرين الأوّلين ، ووسم غير إبله ، وخالف الله ورسوله بقوله وعمله ، ثمّ دبّر في قتل سبط المصطفى ، وقرّة عين سيّدة النسا ، وأداف له قواتل سمومه ، ولم يحسن الله في حديثه وقديمه ، بعد أن فرّق جموعه بتدبيره ومكره ، وأفسد جنوده بذهابه وغدره ؟
    وأعانه على ذلك قوم ظاهرهم الوفاق ، وباطنهم النفاق ، غرّتهم الدنيا بزينتها ، واستهوتهم بزهرتها ، فباعوا الآجلة بالعاجلة ، والعالية بالسافلة ، ونكثوا عهده ، وأخلفوا وعده ، ولم يحفظوا النبيّ في عترته ، ولم يراعوا الوصيّ في اُسرته ، وانتهبوا ثقله ، وراموا قتله ، وأظهروا ما كان من غدرهم مصوناً ،
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 2/216. والأبيات لابن حمّاد العبدي.

(431)
ومن حقدهم مكنوناً ، وأطلع الله وليّه على ما دبّروا ، وحاق بهم سيّئات ما مكروا ، فمال صلوات الله عليه إلى إظهار الهدنة ، وإطفاء الفتنة ، لعدم الناصح ، وقلّة المناصح ، وحقناً لدماء ذرّيّته وذويه ، وظنّاً بالمخلصين من شيعته وشيعة أبيه ، وعاد إلى حرم جدّه وقد حصّل ما حصّل ، وعاد بدار الهجرة وهو أعلم بما فعل ، كلّ ذلك وابن هند يدبّر في إهلاكه ، وينصب له أشراك كفره وإشراكه ، حتّى قضى صلوات الله عليه شهيداً سعيداً ، مظلوماً مسموماً ، قد انتهكت حرمة الرسول بانتهاك حرمته ، وعظمت مصيبة البتول لعظم مصيبته.
يا خير مبعوث وأكرم مرسل لو أنّ عينك عاينت بعض الّذي أمّا ابنك الحسن الزكيّ فإنّه ففروا به كبداً لديك كريمة وسقوا حسيناً في الطفوف على الظما قتلوه عطشاناً بعرصة كربلا أضحى لدين الحقّ فينا شارعاً ببنيك حلّ لقد رأيت فظائعا لمّا مضيت سقوه سمّاً ناقعا منه وأحشاءً له وأضالعا كأس المنيّة فاحتساها جارعا وسبوا حلائله وخلف ضائعا


(432)
جسداً بلا رأس تمدّ على الثرى رجلاً به وتكف اُخرى نازعا (1)
    قيل : لمّا بلغ معاوية موت الحسن عليه السلام سجد وسجد من حوله ، وكبّر وكبّروا معه ، فدخل عليه ابن عبّاس بعدها ، فقال معاوية : يا ابن عبّاس ، أمات الحسن أبو محمد ؟
    قال : نعم ، رحمة الله وبركاته عليه وعلى روحه وبدنه ، وبلغني تكبيرك وسجودك ، أمّا والله لا يسدّ جثمانه حفرتك ، ولا يزيد انقضاء أجله في عمرك.
    قال : أحسبه ترك صبية صغاراً ولم يترك عليهم كثير معاش.
    فقال : إنّ الّذي وكّلهم إليه غيرك ، وكلّنا كنّا صغاراً فكبرنا.
    قال معاوية : فأنت تكون سيّد القوم بعده ؟
    فقال : أمّا وأبو عبد الله الحسين حيّ ، فلا. (2)
يا ابن بنت المصطفى بك حزني ماله كان وديّ لو أكن فيمنّ الله على وابن الوصيّ المرتضى حتى مماتي انقضا منك بروحي عوضا رمسك برد ورضا
    وإذا ما مرّ ذكر الواقعة العظمى ، والمصيبة الكبرى ، وما مرّ بعرصة كربلاء بذرّيّة المصطفى ، ففرّغ نفسك ـ أيّها المؤمن ـ لقيام المآتم ، واستفرغ غرب
1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/43 ، زفرات الثقلين : 2/7 ، وليس فيهما البيت الأوّل. والأبيات للصقر البصري.
2 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/43


(433)
عيونك بالدموع السواجم ، وطلّق النوم إلّا غراراً (1) ، واذرف الدموع من العيون مدراراً ، بمصيبة من هدمت مصيبته الايمان هدماً ، وتهظّمت واقعته الإسلام هظماً ، وأكسبت قلوب المؤمنين حزناً وغمّاً ، وألبست ألباب العارفين حيرة وهمّاً.
    يا لها مصيبة شقّت لها من المؤمنين قلوبهم لا جيوبهم ، وتجافت لعظيمها عن المضاجع جنوبهم ، وأبكت السماء دماً وتراباً ، وحيّرت من اُولي العرفان أفكاراً وألباباً ، واضطربت لهولها السبع العلى ، واهتزّ لها عرش المليك الأعلى ، النبيّ والوصيّ فيها أهل العزاء ، وسيّدة النساء تودّ لو تكون له الفداء! أنسى كلّ مصيبة مصابها ، وأمر كلّ طعم صابها ، وأدارت بكؤوس الأحزان على قلوب المؤمنين ، وجدّدت معاهد الأشجان في نفوس المخلصين ، سعرها لا ينسى وإن تقادمت الأيّام ، وذكرها لا يستقصى وإن تعاقب الأعوام ، كست السماء بحمرة نجيع شهدائها شفقاً ، وأذكت في قلوب المؤمنين بقادح زنادها حرقاً ، وأنفدت بتراكم أحزانها ماء الشؤوب ، وأذابت بتفاقم أشجانها القلوب ، فأسالتها دماً من العيون ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، أيّ مصيبة طمت وعمت ، وأشجت قلوب المؤمنين وأغمت ؟
    فيا إخواني الّذين نوّر الله قلوبهم بأنوار الايمان ، وأظهر نفوسهم على أسرار العرفان ، وسلك بهم سبيل نبيّه وعترته ، وألزمهم التمسّك بحبل وليّه وذرّيّته ، وجعل حبّ آل محمد شعارهم ودثارهم ، وقرّبهم زلفى من رضوانه باتباعهم آثارهم ، جدّدوا في هذا اليوم معاهد الأحزان ، وأفيضوا الدموع المقرحة للأجفان ، واستشعروا شعار الأسف فهذا زمانه ، وأظهروا شعار الجزع
1 ـ أيّ قليلاً.

(434)
فهذا أوانه ، وعزّوا نبيّكم المصطفى في هذا اليوم بسبطه ، وأسعدوا وليّكم المرتضى على مصابه برهطه ، فإنّ البكاء في هذا اليوم لمصاب آل الرسول من أفضل الطاعات ، وإظهار الجزع لما نال ولد الطاهرة البتول من أكمل القربات.
    روى مسمع بن عبد الملك كردين البصري (1) ، عن سيّدنا أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : يا مسمع ، إنّ السماوات والأرض لم تزل تبكي مذ قتل أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، ومن يبكي لمصابنا من الملائكة أكثر من ذلك ، وما من عبد بكى رحمة لنا إلّا رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه ، فإذا سالت على خده فلو أن قطرة منها سقطت في جهنّم لأطفأت حرّها حتّى لا يوجد لها حرارة.
    وما من ذي قلب يتوجّع لمصيبتنا إلّا أعطاه الله فرحة عند موته لا تزال معه حتّى يرد علينا الحوض ، وإنّ الكوثر ليفرح بالمؤمن يقدم عليه فيسقى منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً ، ولا سقي بعدها أبداً ، وإنّه لفي طعم الزنجبيل ، ورائحة المسك ، أحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وأصفى من الدمع ، وأذكى من العنبر ، يخرج من معين تسنيم ، فيمرّ في أنهار الجنّة على رضراض (2) الدرّ والياقوت ، وإنّ رائحته لتشمّ من مسيرة ألف عام وعليه قدحان من الدرّ والياقوت أكثر عدداً من نجوم السماء ، وعلى حافّته أمير المؤمنين عليه السلام قائم وبيده عصا من عوسج يذود بها أعداءنا ، وإنّ الرجل منهم ليأتي فيقول : يا أمير المؤمنين ، اسقني شربة فإنّي كنت في دار الدنيا مقرّاً بالشهادتين.
    فيقول له أمير المؤمنين : ارجع إلى إمامك الّذي كنت تتولّاه في دار الدنيا
1 ـ كذا في الكامل ، وفي الأصل : مسمع بن عبدالكريم البصري.
2 ـ كذا في الكامل ، وفي الأصل : رضاض. والرضراض : الحصا أو صغارها.


(435)
وتقدّمه على إمام الحق فاسأله ليشفع لك.
    فيقول : يا مولاي ، إنّ إمامي الّذي ذكرت شرّ منّي. فيقول له أمير المؤمنين : ارجع وراءك لا سقاك الله أبداً. (1)
رزء سبط النبيّ خير شهيد وأذاب الفؤاد منّي فأجراه د حزن قلبي وإن تقادم عهدي ليس لي مونس إذا جنّ ليلي سقم جسمي على عظيم مصابي وإذا رمت أن اُكفكف دمعي ما تذكّرت ما جرى يوم عاشورا من بني العاهرات آل زياد بفؤادي أحلّ نار الوقود ماً في محاجري في خدودي بي جديد في كلّ يوم جديد غير وجدي وحرقتي وسهودي واصفراري أدلّتي وشهودي قال حزني في القلب هل من مزيد ؟ ء على سبط أحمد المحمود وأعقّ الورى وشرّ العبيد

1 ـ كامل الزيارات : 101 ح 6 ، عنه البحار : 44/290 ح 31.
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس