تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: 451 ـ 465
(451)
سبعون سريراً من ذهب ، قوائمها الدرّ والزبرجد ، موصولة (1) بقضبان الزمرّد ، على كلّ سرير أربعون فراشاً غلّظ ، كلّ فراش أربعون ذراعاً ، على كلّ فراش زوجة من الحور العين عرباً أتراباً.
    فقال الرجل : أخبرني يا أمير المؤمنين ، عن العروبة ؟
    قال : هي (2) الغنجة الوضيّة الشهيّة لها سبعون ألف وصيفة وسبعون ألف وصيف ، صفر الحليّ ، بيض الوجوه ، عليهنّ تيجان اللؤلؤ ، على رقابهنّ المناديل ، بأيديهم الأكوبة والأباريق.
    فإذا كان يوم القيامة فو الّذي نفسه بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم لما يرون من بهائهم حتّى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها ، ويشفّع الرجل منهم في سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرانه ، حتّى انّ الجارين يتخاصمان أيّهما أقرب جوار فيقعدون معي ومع إبراهيم عليه السلام على مائدة الخلد ، فينظرون إلى الله عزّوجلّ في كلّ يوم بكرة وعشيّاً (3) وهذا الحديث رواه شيخنا الشيخ أبو علي الطبرسي رضي الله عنه في كتاب مجمع البيان لعلوم القرآن (4) عند تفسيره ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيِل اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (5).
لهفي على السبط وما ناله قد مات عطشاناً بكرب الظما

1 ـ في المجتمع : مرمولة.
2 ـ كذا في المجمع ، وفي الأصل : هنّ.
3 ـ صحيفة الامام الرضا عليه السلام : 267 ح 1 « المستدركات » ، البحار : 100/12 ح 27.
    وأورده أبوالفتوح الرازي في تفسيره : 3/251 عن الطائي.
4 ـ مجمع البيان : 1/538.
5 ـ سورة آل عمران : 169.


(452)
لهفي لمن نكس عن سرجه لهفي على ذاك القوام الّذي لهفي على ذاك العذر الّذي لهفي على بدر العلى إذ على لهفي على النسوة إذ برّزت لهفي على تلك الوجوه الّتي ليس من الناس له من حما حبته بالطفّ سرو العدا عراه بالطفّ تراب العرا في رمحه يخجل بدر الدجا تساق سوقاً بالعنا والجفا أبرزن بعد الصون بين الملا (1)
    وممّا نسب إلى زينب بنت عليّ عليهما السلام :
يا حرّ صدري يا لهيب الحشا كنت أخي ركني فلم يبق لي وكنت أرجوك فقد فاتني (2) يا ابن اُمّي لو تأملتني حلّ بأعدائك ما حلَّ بي وددت لو بالروح أفديك من انهدَّ ركني يا أخي والقوى ركن ولا ذخر ولا ملتجا ما كنت أرجوه فخاب الرجا رأيت منّي ما يسرّ العدا من ألم السير وذلّ السبا يومك هذا وأكون الفدا (3)
* * *
يا ابن خير الناس اُمّاً وأباً نار حزني بك يا ابن المصطفى وإذا ما مرّ ذكر الطفّ في وأجلّ الخلق طراً نسبا حرّها منذ وجودي ما خبا مهجتي أذكى بقلبي لهبا

1 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/117 ، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/153.
2 ـ في المناقب : خانني.
3 ـ مناقب ابن شهراشوب : 4/127.


(453)
    يا من طمست أنوار الاسلام بمصيبته ، ودرست آثار الايمان بواقعته ، وخفرت ذمّة الرسول لخفر ذمّته ، ونتهكت حرمة البتول لانتهاك حرمته ، ها نحن عبيدك وأبناء عبيدك ، العارفون من مقامات الشرف بطارفك وتليدك ، المستمسكون من دلائل بعروة عصمة لا انفصام لحبلها ، المخلصون في ودادك بصدق نيّة لا مزيد على فرعها وأصلها.
    قد اجتمعنا في حضرتك الشريفة ، وبقعتك المنيفة ، لنوفي التعزية بمصابك حقّها ، ونفضي إليك بقلوب قد أخلصت لولائك صدقها ، وتذرف عبرات من عيون قريحة ، وتصاعد زفرات من قلوب جريحة ، جزعاً لواقعتك الّتي هدّت أركان الدين هدّاً ، وأحلّت في قلوب المؤمنين كرباً ووجداً ، ونبدي أسفاً إذ لم نكن من المبارزين أعداءك في عرصة القتال ، ونتأوه لها خيبة أنّا لم نكن من المناجزين أضدادك عند مقارعة الأبطال ، ويرانا الله قد اُريقت في نصرتك دماؤنا ، وقطعت أوصالنا ، نتلقّى عنك حدود الصفاح بوجوهنا ، ونقابل رؤوس الرماح بصدورنا ، مخلصين في طاعتك ، مناصحين في متابعتك ، نرى طعم الموت في جهاد أعدائك ، أحلى من العسل المشار ، وارتكاب الأخطار في إظهار أمرك أولى من ركوب العار.
    قد امتزجت دماؤنا بدمك ، وحصلنا في عداد جندك وخدمك ، قد سبقتنا أطرافنا إلى جنّة المأوى ، وعرجت أرواحنا إلى الرفيق الأعلى ، وسمينا بشهداء كربلاء ، ووسمنا بسادة الشهداء ، تبارك علينا الملائكة الكرام في صلواتها ، وتهدي إلينا سلامها وتحيّاتها.
    فيا لها غصّة في نفوسنا ، وحسرة في قلوبنا ، لا تنقضي إلّا بنصرة القائم


(454)
من ذرّيّتك ، والخلف الصالح من عترتك ، ولعمري لئن غابت أبداننا عن نصرتك ، وتباعدت أشخاصنا عن مشاهدتك فلقد أدركنا واقعتك ونحن في الأصلاب نطف ، واُمرنا بتجديد التعزية لمصابك بنقلها منّا خلف عن سلف ، وأن نجدّد البيعة في حضرتك بوفاء عهدك ، وعهد أبيك وجدّك والأئمّة الطاهرين من ولدك ، وأن نعرض عليك قواعد عقائدنا ، ونفضي إليك بأسرارنا في مصادرنا ومواردنا ، ونتّخذ يوم رزئك يوم مصيبة لا ترقى عبرته ، ولا تخبو حرقته ، بديت تصاعد زفراتنا فيه زبر الحديد ، ونشيت قطرات عبراتنا ضرب الغمام بل نزيد ، ويربو حزننا على حزن نبيّ الله يعقوب ، وتعلو رنّتنا على رنّة الثكلى الرقوب (1).
    لما اتّخذته العصابة الناصبة المشركة ، يوم سرور وعيد وبركة ، وأظهروا فيه تمام زينتهم ، ووسموه برأس سنتهم ، وليس ذلك ببدع من نفاقهم المكنون ، وشقاقهم المصون ، فهي فرع الشجرة الملعونة في القرآن ، والطائفة المارقة عن الايمان ، الّذين أعلنوا بالسبّ على منابرهم ، ودلّ خبث ظاهرهم على قبح سرائرهم ، وحيث إنّا لم نحض بالشهادة الكبرى بين يديك ، ولم يقض لنا بالحسنى حين توجّه الفجرة إليك ، وفاتنا نصرك بمناصلنا وعواملنا ، ولم نتلقّ عنك السيوف بجباهنا وسواعدنا.
    فها نحن نجاهد أعداءك بقولنا وفعلنا ، ونقمع هاماتهم بمقامع نظمنا ونثرنا ، ونعلن بسبّ أئمّة ضلالهم على أعواد منابرنا ، ونشرح قبح خصالهم في شوامخ منائرنا ، ونعتقد ذلك من أعظم الوسائل إلى ربّنا ، وأكمل الفضائل يوم حشرنا ونشرنا.
1 ـ الرقوب : المرأة الّتي لا يعيش لها ولد ، أو الّتي مات ولدها.

(455)
أحسين والمبعوث جدّك بالهدى لو كنت حاضر كربلاء لبذلت في وسقيت حدّ السيف من أعدائكم لكنني اُخّرت عنه لشقوتي إذ لم أفز بالنصر من أعدائكم قسماً يكون الحقّ عنه مسائلي إعلاء أمرك جهد بذل الباذل سقياً وحدّ السُمْهَري الذابل قتلا يلى تا بين الغريّ وما يلي (1) فأقلّ من حزن ودمع سائل

    جعلنا الله وإيّاكم في هذا اليوم ممّن جلّت مصيبته ، وعظمت رزيّته ، وتصاعدت زفرته ، وتقاطرت عبرته ، جزعاً لواقعة سيّده وابن سيّده ، ومعتقده وابن معتقده ، وممّن اطلّع الله على حقيقة أمره ، وباطنه وسرّه ، فوجده لا مزيد على إخلاصه ، فألحقه بدرجة أوليائه وخواصّه ، الّذين نوّه بذكرهم في كتابه المكنون ، بقوله : ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (2).
    اللّهمّ أحسن في هذا اليوم عزاءنا ، وضاعف جزاء خلتنا ، وارحم استكانتنا ، فإنّا عائذون بقبر أمينك وابن أمينك ، أفضل من اُريق دمه في نصرة دينك ، مستمسكين بالهدى الّذي جاءنا به من عندك ، مقرّين بالحقّ الّذي خبّرنا به عنك.
    اللّهمّ وإذ حرمنا لشقوتنا ، ولم تختم لنا بالسعادة العظمى في دنيانا وآخرتنا ، إذ لم نكن ممّن اُريق دمه في نصرته ، محامين عنه وعن عترته ،
1 ـ كذا ورد العجز في الأصل.
2 ـ سورة آل عمران : 169.


(456)
نباهي به الكرام من ملائكتك ، وأرواح أنبيائك وخاصّتك ، تعجب ملائكتك من تصميم عزيمته في حربه ، وتضرب الأمثال بشدّة طعنه وضربه ، فصلّ على محمد وآل محمد واختم لنا بذلك بين يدي الخلف الصالح من ولده ، الداعي إلى دينك بجدّه وجهده ، أمينك في بلادك ، وعينك على عبادك ، صاحب الرجعة البيضاء ، والدولة الزهراء.
    اللّهمّ اجعلنا من خاصّته وبطانته ، ومن الداعين إلى نصره وملته.
    اللّهمّ وإن أحللت بنا قضاءك قبل مشاهدة بهجته ، ولم تكحل عيوننا بمعاينة طلعته ، فصلّ على محمد وآل محمد ، وأمتنا على ولايته وولاية آبائه ، واجعلنا في عداد جنده وأوليائه ، إنّك على كلّ شيء قدير.


(457)

    ولمّا أخزى الله تعالى يزيد الفاجر بما فعل ، وطالت عليه الألسن لمّا حصل ما حصل ، ولامه من حضر من أماثل الصحابة وأرباب الملك ، وشاع في الآفاق فضيع ظلمه وفتكه ، وخشي الفتنة على نفسه وملكه ، ركن إلى الاعتذار ، ولجأ إلى الانكار ، وأنّى له ذلك وقد زلّت القدم ، وحلم الادم ، وجلّت الرزية ، وعظمت البليّة ، وثلم في الإسلام ثلمة لا تسدّ ، ووقعت فتنة لا تردّ ، أشير إليه بتعظيم آل محمد وردّهم ، وإشخاصهم إلى مدينة جدّهم ، فأظهر لسيّد العابدين تكرمة وتبجيلاً ، وسرّحه سراحاً جميلاً.
    روي أنّ اللعين لما خشي شقّ العصا ، وحصول الفتنة ، أخذ في الاعتذار ، والانكار لفعل ابن زياد ، وإبداء التعظيم والتكريم لعليّ بن الحسين عليه السلام ، ونقل نساء رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى داره الخاصّة ، وكان لا يتغدّى ولا يتعشّى إلّا مع سيّدنا سيّد العابدين عليه السلام ، وكل من كان حاضراً من الصحابة والتابعين والأجلّة وبني اُميّة أشاروا عليه لعنه الله بردّ (1) حرم رسول الله والاحسان إليهم ، والقيام بما يصلحهم ، فأحضر سيّدنا عليّ بن الحسين ، وقال : إنّي كنت قد وعدتك بقضاء ثلاث حاجات فاذكرها لي لأقضيها.
1 ـ بردّهم ـ خ ل ـ.

(458)
    فقال : الاُولى : أن تريني وجه أبي عبد الله عليه السلام فأتزوّد منه ، وأنظر إليه ، واُودّعه.
    والثانية : أن تردّ علينا ما اُخذ منّا.
    والثالثة : إن كنتَ عزمتَ على قتلي أن توجّه مع هذه النسوة من يردّهنّ إلى حرم جدّهنّ صلّى الله عليه وآله.
    فقال : أمّا وجه أبيك فلن تراه أبداً ، وأمّا قتلك فقد عفوت عنك ، وأمّا النساء فما يردّهنّ إلى المدينة غيرك ، وأمّا ما اُخذ منكم فأنا اُعوّضكم عليه (1) أضعاف قيمته.
    فقال عليه السلام : أمّا ما لك فلا نريده ، هو موفّر عليك ، وإنّما طلبت ما اُخذ منّا ، لأنّه فيه مغزل فاطمة بنت محمد مقنعتها وقلادتها وقميصها.
    فأمر بذلك ، فردّ ، وزيد عليه مائتي دينار ، فأخذها عليّ بن الحسين عليه السلام وفرّقها في الفقراء والمساكين.
    ثمّ أمر بردّ الاُسارى والسبايا ـ كما أشرنا أوّلاً ـ إلى مدينة الرسول الله صلّى الله عليه وآله. (2)
    فسألوا أن يسار بهم على العراق ليجدّدوا عهداً بزيارة أبي عبد الله عليه السلام ، فلمّا بلغوا كربلاء ونزلوا موضع مصرعه عليه السلام وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام لما كانوا يعلمون من فضل زيارته ، فوافوا في
1 ـ في الملهوف : عنه.
2 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 219 و 224.


(459)
وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرّحة للأكباد ، واجتمع إليهم نساء أهل السواد ، وأقاموا على ذلك أيّاماً.
    وروى سيّدنا فخر العترة عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاوس : روي عن أبي جناب الكلبي ، قال : حدّثنا الجصّاصون قالوا : كنّا نخرج في الليل إلى الجبّانة عند مقتل الحسين عليه السلام فنسمع الجنّ ينوحون عليه ويقولون :
مسح الرسول جبينه أبواه من عَلُيا قريش قتلوه ظلماً ويلهم فله بريق في الخدود وجدّه خير الجدود سكنوا به نار الخلود (1)
    وأمّا رأس الحسين عليه السلام فروي أنّه اعيد إلى كربلاء ودفن مع جسده الشريف ، وكان العمل من الطائفة على هذا. (2)
    قال : ثمّ فصلوا عن كربلاء يريدون المدينة.
    قال : ولمّا وصلوا بالقرب من المدينة عجّت نساء بني هاشم ، وصاحت المدينة صيحة واحدة ، فضحك عمرو بن سعيد بن العاص لعنة الله عليه ، وكان أمير المؤمنين من قبل يزيد لعنه الله ، وتمثّل بقول عمرو بن معدي كرب :
عجّت نساء بني زياد عجّة كعجيج نسوتنا غداة الأرنب (3)
    ثمّ صعد لعنه الله المنبر ، وقال : إنّها لدمة بلدمة ، وصدمة بصدمة ، كم
1 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 225 ـ 226.
    ورواه في مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/95 ـ 96 ، وليس فيهما البيت الأخير.
2 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 225.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/76.


(460)
خطبة بعد خطبة ، وموعظة بعد موعظة ( حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرِ ) (1) وددت أنّ رأسه في بدنه ، وروحه في جسده ، أحياناً كان يسبّنا ونمدحه ، ويقطعنا ونصله ، كعادتنا وعادته ، ولم يكن من أمره ما كان ، ولكن كيف نصنع بمن سلّ سيفه يريد قتلنا إلّا أن ندفعه عن أنفسنا ؟!
    فقام عبد الله بن السائب ، فقال : لو كانت فاطمة حيّة ورأت الحسين لبكت عليه ، فجبهه عمرو بن سعيد لعنه الله ، وقال : نحن أحقّ بفاطمة منك ؛ أبوها عمّنا ، وزوجها أخونا ، وابنتها ابنتنا (2) ، لو كانت فاطمة حيّة لبكت عينها ، وحزن كبدها ، وما لامت من قتله ومنعه عن نفسه. (3)
    فلعنة الله عليه وعلى من والاه ، ما أجرأه على الله وعلى رسوله ؟!
    وروى سيّدنا السيّد عليّ بن موسى بن طاوس في كتابه ، قال : لمّا قرب عليّ بن الحسين عليه السلام من المدينة حطّ رحله ، وضرب فسطاطه خارج البلد ، وأنزل نساءه ، وقال لبشير (4) بن حذلم : يا بشير ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء ؟
    قلت : بلى ، يا ابن رسول الله ، إنّي لشاعر.
    قال : فدخل المدينة وانع أبا عبد الله عليه السلام.
    قال بشير : فركبت فرسي وركضت حتّى دخلت المدينة ، فلمّا بلغت مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت أقول :
1 ـ سورة القمر : 5.
2 ـ في المقتل : وابنها ابننا.
3 ـ مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : 2/76 ـ 77.
4 ـ في الملهوف : بشر ، وكذا في الموارد التالية.


(461)
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها الجسم منه بكربلاء مضرّج قُتل الحسين فأدمعي مدرارُ والرأس منه على القناة يدارُ
    قال : ثمّ قلت : هذا عليّ بن الحسين في عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ، ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم ، اُعرّفكم مكانه.
    فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا مخبية (1) إلّا برزن من خدورهنّ ، يدعون بالويل والثبور ، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم ، ولا [ يوماً ] (2) أمرّ على المسلمين منه.
    وسمعت جارية تنوح على الحسين عليه السلام وتقول :
نعى سيّدي ناعٍ نعاه فأوجعا فعيناي جودا بالدموع فأبكيا (3) على من دهى عرش الجليل فزعزعا على ابن نبيّ الله وابن وصيّه وأمرضني ناعٍ نعاه فأفجعا وجودا بدمع بعد دمعكما معا وأصبح هذا (4) الدين والمجد أجدعا وإن كان عنّا شاحط الدار أشسعا (5)
    ثمّ قالت : أيّها الناعي ، جدّدتَ حزننا بأبي عبد الله عليه السلام ،
1 ـ في الملهوف : محجّبة.
2 ـ من الملهوف.
3 ـ فاسكبا ـ خ ل ـ. وفي الملهوف : أعينيّ جوداً بالمدامع فاسكبا.
4 ـ في الملهوف : أنف.
5 ـ في « ح » : أيّ أبعدا.


(462)
وخدشتَ منّا قروحاً لم تندمل ، فمن أنت رحمك الله ؟
    فقلت : أنا بشير بن حذلم ، وجّهني مولاي عليّ بن الحسين عليه السلام ، وهو نازل بمكان كذا مع عيال أبي عبد الله عليه السلام وبناته (1).
    قال : فتركوني بمكاني وبادروني ، فضربت فرسي حتّى رجعت إليه عليه السلام ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطّيت رقاب الناس ، حتّى قربت من باب الفسطاط ، وكان عليّ بن الحسين عليه السلام داخل الفسطاط ، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسيّ ، فوضعه له فجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة والبكاء ، وارتفعت الأصوات بالنحيب ، وحنين الجواري والنساء ، والناس يعزّونه من كلّ ناحية ، فضجّت تلك البقعة ضجّة شديدة.
    وأومأ بيده إلى الناس أن اسكتوا ، فسكتوا فقال عليه السلام : الحمد لله ربّ العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارىء الخلائق أجمعين ، الّذي بَعْدَ فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الاُمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع (3) ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب ، الفاظعة ، الكاظّة ، الفادحة الحامّة. (3)
    أيّها الناس ، [ إن ] (4) الله وليّ الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الاسلام عظيمة ، قُتِِل أبو عبد الله عليه السلام وعترته ، وسُبيت نساؤه وصبيته ،
1 ـ في الملهوف : ونسائه.
2 ـ في « ح » : يقال : لذعه بلسانه أيّ أوجعه ، في الدعاء ، نعوذ بك من لواذعه ، كأنّها الّتي تلذع الانسان وتوجعه.
3 ـ في الملهوف : الجائحة.
4 ـ من الملهوف. وفيه : وله الحمد.


(463)
وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل (1) السنان ، وهذه الرزيّة الّتي لا مثلها رزيّة.
    أيّها الناس ، فأيّ رجالات منكم تسرون بعد قتله ؟ أم ايّة عين منكم تحتبس دمعها ، وتضنّ بانهمالها ؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقرّبون ، وأهل السماوات أجمعون.
    أيّها الناس ، أيّ قلب لا ينصدع لقتله ؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه ؟ أم أيّ سمع يسمع بهذه الثلمة الّتي ثلمت في الاسلام [ ولا يصم ] (2) ؟
    أيّها الناس ، أصبحنا مطرودين مذودين شاسعين (3) عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الاسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين ، ( إن هذَا إلَّا اخْتِلاقٌ ) (4) ، والله لو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم بالوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها ، وأوجعها ، وأفجعها ، وأكظّها ، وأمضّها ، وأفظعها ، وأمرّها ، وأفدحها ، فعندالله نحتسب فيما أصابنا وبلغ بنا ، إنّه عزيز ذو انتقام.
    فقام صوحان (5) بن صعصعة بن صوحان ـ وكان زمناً ـ فاعتذر إليه عليه السلام بما عنده من زمانه رجليه ، فأجابه عليه السلام بقبول معذرته ، وحسن
1 ـ في « ح » : العامل : ما يلي السنان.
2 ـ من الملهوف.
3 ـ أيّ بعيدين.
4 ـ سورة ص : 7.
5 ـ كذا في الملهوف ، وفي الأصل : صفوان.


(464)
الطويّة (1) ، وشكر له وترحّم على أبيه.
    قال (2) : ثمّ إنّه صلوات الله عليه رحل إلى المدينة بأهله وعياله. (3)
    قلت : ولمّا شاهد عليه السلام منازل أحبّائه الّتي كانت مشارق أنوار الايمان ، ومظاهر أسرار القرآن ، ومواطن مصابيح العرفان ، ومعادن مجاويع الاحسان ، تندب بلسان حالها ، وتنحب لفقد رجالها ، وتذرف عبراتها من مئاقيها ، وتصاعد زفراتها من تراقيها ، وتنادي بصوت ينبىء عن شدّة لوعتها ، ويخبر بحدّة كربتها ، ويستخبر كلّ راكب وراجل ، وينشد كلّ ظاعن ونازل :
أين من كانوا شموسي وبدوري ؟ أين من كانوا حماتي ورعاتي والّذي كنت بهم أسمو والّذي كانوا إذا ما جنّ خطب كم أفاضوا من أيادٍ بفنائي أين من كانوا جمالي وسروري ؟ وهداتي حين تعييني اُموري ؟ على كلّ جليل ونبيل وخطير فجنّتي من فادح الخطب العسير لست اُحصيها وأغنوا من فقير

1 ـ في الملهوف : وحسن الظنّ به.
2 ـ أيّ ابن طاوس.
3 ـ الملهوف على قتلى الطفوف : 226 ـ 230.


(465)
ذو حلوم وعلوم راسخات كم كبادٍ قطعوها نعراي وقلوب خالصات ورقاب مهبط الرحمة منهم كان ربعي مذ نأوا بالبعد عن إنسان عيني يا عيوني إن تكن عَزَّت دموعي كجبال شامخات وبحور بحنين وأنين وزفير ؟ خاضعات لعلا الرب الغفور كلّ أن في مساءٍ وبكور كثر الشامت إذ قلّ نصيري فاذرفي بالدم من قلب كسير
    فنادى مجالس كراماتهم ، ومدارس تلاواتهم ، ومقامات عباداتهم ، ومحاريب صلواتهم : أين من كتب رياض الكرم بجودهم ، وحماة الامم بوجودهم ؟ أين عمّارك بركوعهم وسجودهم ، وقوّامك في طاعة معبودهم ؟ أين من كانت حدائق أنعمهم في فنائك مغدقة ، وجداول كرمهم في خلالك متدفّقة ، وأعلام علومهم منصوبة ، وأروقة شرفهم مضروبة ؟ كم أضاءوا بمصابيح نفقاتهم ظلمتك ؟ وكم آنسوا بنغمات تلاوتهم وحشتك ؟ وكم أحيوا بصلاتهم ليلك ونهارك ؟ وكم أناروا بنور تهجّدهم حنادس أسحارك ؟
    فأجابه صداها بلسان حالها ، وأخبره فناؤها بتنكّر أحوالها : رحلوا عن تقنّعي فسكنوا في بيت الأحزان قلبي ، ونأوا عن ربوعي فأطالوا لطول نواهم
تسلية المُجالس وزينة المَجالس الجزء الثاني ::: فهرس