|
|||
(31)
إذ ولو كان الكفر ملّة واحدة ، وقلنا غيرهما كافر لكنّ أصنافه كثيرة :
1 ـ من إنكار الصانع عزّ اسمه ، كالدهري والطبيعي تارة. 2 ـ واعترافه ، لكنّ الله أعمى أبصارهم ، كعبدة البقرة والصنم والكواكب والاُمم الاُخرى. 3 ـ وبجعل الشريك له ، كالقائل بالنور والظلمة واليزدان والاهرمن ـ أي المجوس ـ ثالثة. 4 ـ وبالاتحاد في صفاته ، كما يشير إليه الماتن في الجملة رابعة. 5 ـ وبإنكار النبوّة كلية ، كالبودائية والبراهمة خامسة. 6 ـ وبالتشكيك في النبيّ الثابت النبوّة ، سادسة. 7 ـ وبالإلحاد في صفاته ، سابعة. 8 ـ وبإنكار ولاية من له الولاية ، ثامنة. 9 ـ وبالإلحاد في صفاته ، تاسعة. 10 ـ وبإنكار ضروريّ ما جاء به الأنبياء أو نبيّ الإسلام ، عاشرة. وإلى ما ذكرنا يشير الكلمات في ضابطة من خرج عن الإسلام وباينه ، أو انتحله وجحد ما يعلم ضرورته من الدين ، وهو بتمام أصنافه كافر ... ثمّ يذكر المصنّف ما عنده من توضيح لهؤلاء الأصناف العشرة حسب ما يدّعيه في الصفحة 342 ، ويقول : والمراد بالكافر كما أشرنا في صدر المسألة : من كان غير المسلم وغير المؤمن والتقابل بينهما ، قلنا تقابل التضادّ دون العدم والملكة ، وقد عرفت عدّدناهم إلى عشرة أصناف ، فمنهم من كان منكراً للاُلوهية ومنكراً للتوحيد وللرسالة العامّة أو الخاصّة أو ضرورياً من ضروريات الدين كالصلاة والصوم والحجّ وأمثال ذلك ، وهذا من مسلّمات المسلمين ، فضلا عن المؤمنين ، وإجماعات (32)
الفريقين عليه فوق التواتر ، بل إنّه من ضروريات الإسلام ، فلا يحتاج إلى دعوى تكاثر الإجماعات ، كما عن جماعة كثيرة من الفريقين ... نعم قد اختلف الأصحاب رضوان الله عليهم بأنّ إنكار الضروري هل هو سبب تامّ للكفر أم لا ؟ وبعبارة اُخرى بعد الفراغ من أنّه موجب للكفر قد اختلفوا في أنّه بنحو الموضوعية أو لا ، بل يكون بنحو الطريقيّة من جهة كشفه عن إنكار الرسالة الخاصّة والنبوّة الخاصة ، أي تكذيب النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وعليه لا يكون بنفسه ـ بما هو هو ـ موجباً للكفر ، فإذا فرض هناك من ينكر الزكاة ولكن يعتقد بالنبوّة وما جاء به ، فلا يكون كافراً ، لكنّ هذا فيما لو لم يكن الإنكار لشبهة علمية طرأ عليه ، كالباطنية ، حيث يقولون الحجّ بفلان وفلان ، ولا يقولون ما يقوله المسلمون ، أو كان قريب العهد بالإسلام أو غير ذلك ، فهذا خارج عن الفرض في كلية مقامات الكفر ... وكيف كان في مسألة إنكار الضروري خلاف بين الأصحاب من حيث الموضوعية أو الطريقية ، ففي المسألة وجهان ، بل قولان ، لكنّ الحقّ الذي لا سبيل إلى إنكاره ، كما عليه المشهور ، هو أنّه بنفسه سبب مستقلّ للكفر ، سواءً كان كاشفاً من إنكار الرسالة أم لا ؟ ثم يذكر المصنّف وجوهاً ركيكة ، والحقّ كما عند محقّقي المتأخرين من فقهائنا الأعلام : أنّ إنكار الضروري إنّما يوجب الكفر والنجاسة فيما لو كان يعود إلى تكذيب النبيّ وإنكار رسالته ، فتأمل ، كما سنذكر ذلك من خلال المباحث الآتية إن شاء الله تعالى. ثم يذكر المؤلّف الروايات الدالّة على أنّ الإنكار يوجب الكفر ويدّعي إنّها تدلّ على مجرّد الإنكار من دون الكشف ، ثمّ يقول : ثمّ من البديهي اختلافه بالقياس إلى أفراد المكلّفين ، فإنّ إنكار الضروري تارةً يكون : من جهة قرب العهد بالإسلام ، واُخرى : يكون من جهة نشوّه في بلاد الكفرة الفجرة ، وثالثة : يكون من جهة شبهات علمية ، ورابعة : يكون من جهة قصوره في نفسه
(33)
من معرفة الحقائق كالضعفاء والعجائز وسائر أصناف القصّر ، ولهذا إنّ الشيخ الأنصاري ( قدس سره ) فرّق بين القاصر والمقصّر ، فالقاصر هو الذي حكمت الآية الكريمة بمعذوريته في تمام الأديان والمذاهب ، نعم لا خصيصة بالعالم ، إذ إجماع أصحابنا ـ بل العقل والنقل ـ قائم بأنّ المقصّر في حكم العالم ( المتعمّد ) ، وخامسة : عن اضطرار عقليّ ، وسادسة : يكون عن اضطرار شرعي كالتقيّة وأمثالها ، فكلّ تلك الفرق لا يوجب الكفر أبداً ، فيكون الإنكار منحصراً بالعالم الذي عرفته أنّ المقصّر في حكمه ، وما ذكرنا هو معيار الكفر بدون الفرق بين اُصول الدين وفروعه في دين الإسلام وغيره.
أقول : كلامه هذا كلّه قابل للنّقاش ، فإنّ إنكار المسلم ما جاء في المسيحية لا يخرجه مطلقاً إلى الكفر ، إلاّ إذا كان ذلك يستلزم إنكار الرسالة ، وأمّا الفرق بين القاصر والمقصّر فقد أجاب عنه سيّدنا الحكيم في مستمسكه ، فراجع ، وإنّما تعرّضنا إلى مقولة الشيخ العراقي ، لأنّ هناك من يذهب إلى مسلكه ، والمقصود عرض الأفكار وتضارب الآراء حتّى يعلم الصواب ، ونعرف الحقّ الحقيق ، وبالله التوفيق. عودٌ على بدء : ثمّ ، الإسلام العظيم لكي لا يضلّ معتنقيه وينحرفوا عن الصواب ، بل يعرفون الحقّ وأهله ، وما هو الصحيح السالم ، أعطى لكلّ شيء علامات وصفات ، فإنّ الآيات القرآنية والروايات النبويّة والولوية ، تذكر علائم الصحيح والسقيم ، ومميّزات الحقّ والباطل ، وصفات الشرّ والخير ، وتعطي الموازين الحقيقيّة لمن يريد (34)
الهداية ، ويبغي الرشد في حياته العلميّة والعمليّة ، فما نحن فيه نرى الله سبحانه ورسوله وعترته الطاهرين ( عليهم السلام ) يذكرون صفات المؤمن والكافر والمنافق والمشرك ، كما مرّت الإشارة إلى جملة منها. ومن علائم الكافر كما قال سبحانه :
( وَالَّذينَ كَفَروا أوْلِياؤهُمُ الطَّاغوتُ يُخْرِجونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظِّلُماتِ ) (1). ( وَالَّذينَ كَفَروا أعْمالُهُمْ كَسَراب بِقيعَة يَحْسَبُهُ الظَمْآنُ ماءً ) (2). ( وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعيداً ) (3). ( وَالكافِرونَ هُمُ الظَّالِمونَ ) (4). ثمّ ، كما علم أنّ هناك فرق بين الكفر والشرك ، وقد ورد في الروايات أنّ الكفر أقدم من الشرك ، قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « والله إنّ الكفر لأقدم من الشرك ، وأخبث وأعظم ( ثم ذكر كفر إبليس حين قال الله له : ( وَإذْ قُلـْنا لِلـْمَلائِكَةِ اسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلاّ إبْليسَ أبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الكافِرينَ ) (5) ) ، فالكفر أعظم من الشرك ، فمن اختار على الله عزّوجلّ ، وأبى الطاعة ، وأقام على الكبائر ، فهو كافر ، ومن نصب ديناً غير دين المؤمنين فهو مشرك » (6). 1 ـ البقرة : 257. 2 ـ النور : 39. 3 ـ النساء : 136. 4 ـ البقرة : 254. 5 ـ البقرة : 34. 6 ـ الكافي 2 : 384. (35)
وكذلك ورد هذا المعنى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) (1) والإمام الكاظم ( عليه السلام ) (2).
أقول : زبدة الكلام في هذا المقام : أنّ الإسلام الذي يوجب حرمة دم المسلم وعرضه وماله ويجري عليه أحكام الإسلام ، إنّما يتمّ بقول الشهادتين ، والكافر الذي يقابل من أنكرهما أو أحدهما ـ أي إنكار الاُلوهية أو إنكار الرسالة ـ فلا يجوز له النكاح من مسلمة ، كما أنّ ماله غير محترم لو كان حربيّاً ، فالذي يوجب حرمة المسلم هو قول الشهادتين وإحرازه ، وإن شكّ في اعتقاده القلبي بذلك. ويستفاد هذا المعنى من الروايات ـ كما جاء في الكافي 2 : 24 ، الباب 14 ، باب ما تؤدّى به الأمانة ) وما تمّ سنداً ودلالة الرواية الثالثة ، وهي صحيحة جميل بن درّاج. علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن جميل بن درّاج ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول الله عزّوجلّ : ( قالَتِ الأعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنوا وَلـكِنْ قولوا أسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخِلِ الإيمانُ في قُلوبِكُمْ ) (3) ، فقال لي : ألا ترى أنّ الإيمان غير الإسلام. فالمعتقدات القلبية إنّما ترتبط بمفهوم الإيمان وليس هو الإسلام ، كما دلّت عليه رواية سماعة ، وهو من الثقات وإن كان واقفيّ المذهب (4) ، في حديث : قال ( عليه السلام ) : الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والتصديق برسول الله ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ... الحديث. 1 ـ البحار 72 : 96. 2 ـ المصدر : 97 ، والكافي 2 : 385. 3 ـ الحجرات : 14. 4 ـ الكافي 2 : 25 ، وكذلك الوافي 3 : 77. (36)
وروايات اُخرى في هذا الباب ـ فراجع ـ ، فمن لم يقل بالشهادتين فهو كافر ، ومن قالها ـ وإن علم من قلبه خلافها ـ فهو مسلم.
وما يقال من إنكار الربوبية فمورده قسمان : فتارةً كافر من أبوين وأراد الإسلام ، فإسلامه بإظهار الشهادتين ، وإن علم خلاف ذلك من قلبه ، فإنّ النبيّ وربّ العالمين ، يعلمان ما في قلوب الأعراب ، فقالوا آمنا فأنكر عليهم بأنّهم أسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، ومن كان من أبوين مسلمين فلا داعي إلى الاعتراف وقول الشهادتين ، فكفره فيما لو أنكر الصانع سبحانه ، أو أنكر النبوّة ونبوّة نبيّنا الأكرم محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، وكفر الأوّل عدم الاعتراف بالشهادتين ، وهذا ما يستفاد من الروايات الشريفة ، فتدبّر. ثمّ ، مجرّد قول الشهادتين وإن لم يؤمن بقلبه إنّما ينفعه في الدنيا من حفظ ماله وعرضه ودمه ، ولا ثمرة اُخروية له ، فإنّ ما ينفع في الآخرة إنّما هو الإيمان القلبي ، ولا بد من تحصيل العلم به ، ثمّ الاعتقاد بالمعاد ، إنّما هو مقوّم الإيمان وليس من الإسلام. ويحكم بالكفر من أنكر ضرورياً من ضروريات الدين الإسلامي الحنيف ، سواء ما يتعلّق باُصول الدين أو فروعه ، وهو ما اتّفق على ضروريّته جميع المسلمين ، بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار النبوّة ، كإنكاره الصلاة ، فيلزمه الكفر ، إذ يلزمه تكذيب النبي وإنكاره. وإذا كان إنكاره الضروري لا يرجع إلى إنكار النبوّة ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك. فقيل : كفره يكون كالناصبي من الكفر التعبّدي ـ بمعنى أنّه خلاف القاعدة التي مرّت في الإسلام والكفر من قول الشهادتين وعدم الاعتراف بها ـ فيحكم بكفره تعبّداً ، وإن لم يرجع إلى إنكار النبوّة لجهل قصوري مثلا. ولا بدّ لنا أن نستنبط هذا الكفر التعبّدي من لسان الروايات الشريفة ، (37)
فمنها : صحيحة داود بن كثير (1) : وعن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن داود بن كثير الرقي ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) سنن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كفرائض الله عزّوجلّ ؟ فقال : إنّ الله عزّوجلّ فرض فرائض موجبات على العباد ، فمن ترك فريضة من الموجبات فلم يعمل بها وجحدها كان كافراً ، وأمر رسول الله باُمور كلّها حسنة ، فليس من ترك بعض ما أمر الله عزّوجلّ به عباده من الطاعة بكافر ، ولكنّه تارك للفضل ، منقوص من الخير.
والكفر على قسمين : كفر أصلي اعتقادي ، وهو المقصود من هذه الرسالة في نجاسة الكفّار أو طهارتهم ، وكفر عملي كما في آية الحجّ ; فإنّ من كان مستطيعاً وتركه ، فقد ذهب من يده خيراً ، ولا يجري عليه أحكام الكافر. ومن ترك فريضة وجحدها وأنكرها ، فهذا من الكفر الجحودي الإعتقادي ، أي من القسم الأوّل. ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان (2) : وعنه ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يرتكب الكبيرة فيموت ، هل يخرجه ذلك من الإسلام ، وإن عذّب كان عذابه كعذاب المشركين ، أم له مدّة وانقطاع ؟ فقال : من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال ، أخرجه ذلك من الإسلام وعُذِّب أشدّ العذاب ... إلى آخر الحديث. يستفاد منها : أنّ منكر الضروري في نفسه يوجب الكفر. ومنها : رواية ابن فضيل ، وسندها غير تامّ ، فإنّه لم يعلم من هو ، إذ أنّه 1 ـ الوسائل ، الجزء 1 ، الباب 2 من مقدّمات العبادة ، الحديث 2. 2 ـ المصدر ، الحديث 10 و 11 ، عن مسعدة بن صدقة ، فراجع. (38)
مشترك بين المعدّل والمجروح ، واستظهر البعض أنّه الثقة ، إلاّ أنّ الاستظهار غير تامّ ـ كما هو ثابت في محلّه ـ ويستدلّ بها على أنّ إنكار الضروري يوجب الكفر ، وهي : وعنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال : قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله كان مؤمناً ؟ قال : فأين فرائض الله ؟ إلى أن قال : ثمّ قال : فما بال من جحد الفرائض كان كافراً.
ومنها : رواية الوسائل (1) ، وفي كتاب التوحيد : عن محمّد بن الحسن بن أحمد ابن الوليد ، بسنده عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، في حديث : قال : الإسلام قبل الإيمان ، وهو يشارك الإيمان ، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي ، أو صغيرة من صغائر المعاصي التي نهى الله عنها ، كان خارجاً من الإيمان وثابتاً عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلى الإيمان ، ولم يخرجه إلى الكفر والجحود والاستحلال ، وإذا قال لحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك ، فعندها يكون خارجاً من الإيمان والإسلام إلى الكفر ، ورواه الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن العباس بن معروف ، مثله. وهناك روايات اُخرى قابلة للخدشة في دلالتها ، أو أنّ سندها غير تامّ لم نتعرّض لها طلباً للاختصار. وأما الروايات التي أسلفناها ، فقيل : لا يتمّ الاستدلال بظاهرها ، فإنّه ربما مجتهد فاضل وفقيه ورع ، يفتي بجواز صنع مجسّمة ، وعند الآخرين يحرم ذلك وإنّها كبيرة ، فبناءً على رواية ابن سنان يلزم أن يحكم بكفر هذا المجتهد ومقلّديه ، 1 ـ المصدر : 25 ، الحديث 18. (39)
ولا يصحّ مثل هذه المقولة أبداً ، وحينئذ لا بدّ من قيد في إطلاق الروايات ، وذلك أن يقال : إنّما يحكم بكفره مع علمه بحرمته ، فمن زعم أنّه حلال لاجتهاد ، فإنّه لا يحكم بكفره ، ولا يصدق عليه أنّه أنكر ضروري من ضروريات الدين ، أو يقيّد الإنكار برجوعه إلى إنكار النبيّ وتكذيب الرسالة ، وحينئذ لا فرق في ارتكاب الكبيرة أن يكون من إنكار الضروري أو غيره.
ثمّ لو قيّد بالضروري ـ سواء الاعتقادي أو الحكم العملي ـ فإنّه ينتج أنّ العلم والجهل لا أثر لهما ، وإن قلنا بقيد العلم ، فلا أثر للضروري ، فالقيدان متباينان ولا بدّ من أحدهما ، فيلزم أن تكون روايات المقام مجملة ـ كما أشار إلى ذلك السيّد الحكيم في مستمسكه ، والمحقّق الهمداني في طهارته ـ ولكن لا بدّ لنا من قيد العلم ، فإنّ في بعضها ـ وهي رواية فضيل ـ كلمة ( جحد ) ، وهو لغةً : إنكار الشيء مع العلم به ، كما في قوله تعالى : ( وَجَحَدوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ) (1). إلاّ أنّ كلمة الجحد لم تكن في صحيحة عبد الله بن سنان ، فيلزم إجمال الروايات ، وسيّدنا الخوئي ( قدس سره ) في تنقيحه أشكل على ذلك بأنّ لنا علم إجمالي بأحد القيدين المتباينين ، إلاّ أنّه هذا غير تامّ ; فإنّ لنا احتمال آخر وهو القدر المتيقّن ، وذلك كالمجتهد الذي يفتي حسب اجتهاده بحليّة صنع المجسّمة ، فإنّه خارج عن الروايات قطعاً بالعلم التفصيلي ، وكذا من كان إنكاره عن حجّة ولو جهلا ، كالجاهل القاصر ، كمن أسلم عن جديد ، فإنّه ربما ينكر ضرورياً لكونه كان مألوفاً عنده ارتكاب ذلك كشرب الخمر ، فإنّه خارج عن الروايات ، وما بقي فإنّه يتمسّك بإطلاق صحيحة عبد الله بن سنان ، فيحكم حتّى في الجاهل المقصّر ، فالمتيقّن 1 ـ النمل : 14. (40)
خروجه برفع اليد عن الاطلاق ، وأمّا باقي الموارد والمصاديق فإنّه يدخل تحت المطلق ، إلاّ أنّه يشكل الالتزام بذلك ، فإنّه كيف يحكم على الجاهل المقصّر أنّه من الكافرين ؟ أيّ ملاك لنا على ذلك ؟! نعم نجيب عن الروايات بأنّ الكفر يطلق على ثلاث معان :
1 ـ كفر يقابل الإسلام ، وهو الذي مرّ الكلام فيه ، فالإسلام عبارة عن قول الشهادتين. 2 ـ وكفر يقابل الإيمان الذي مستقرّه القلوب ، كالإيمان بالمعاد وبكلّ ما أنزله الله سبحانه ، وجاء به النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنّ ذلك يحقّق الإيمان ويثبته أو من لوازمه ، ولا يصحّ منه أن يؤمن ببعض ويكفر ببعض. 3 ـ وكفر يقابل الطاعة ، كما في قوله تعالى في آية الحجّ : ( وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ ) (1) وهو الذي نسميّه بالكفر العملي ـ كما مرّ تفصيل ذلك ـ والكفر في هذه الروايات كفر يقابل الإيمان لا الإسلام الذي نتحدّث عنه ، وهو موضوع بحثنا ، ( من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال ـ ولو في قلبه ـ فلا يضرّ بإسلامه ولكن يضرّ بإيمانه ـ ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم ، وهم المنافقون ـ ) فالذي نلتزمه أنّ الإنكار إذا كان بنحو يرجع إلى إنكار الرسالة فإنّه يوجب الكفر الذي يقابل الإسلام ، فإنّ الإسلام هو القول بالوحدانية والرسالة والاعتراف بهما ، والكفر بخلاف ذلك ، ومثل هذا الكافر يحكم بنجاسته. ولكي اُلخّص هذه المقدّمة ، حبّذا أن أذكر ما جاء في الوافي (2) للمحقّق المحدّث 1 ـ آل عمران : 97. 2 ـ الوافي 3 : 99. (41)
الفيض الكاشاني ، وذلك لما فيه من الفوائد ، وتقاسيم اُخرى للكفر ، مستلهماً ذلك ممّا جاء في الآيات والروايات.
قال المحقّق الفيض الكاشاني ( قدس سره ) في بيان ما جاء في الكافي بسنده عن سلام الجعفي ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الإيمان ؟ فقال : الإيمان أن يُطاع الله فلا يعصى. فقال في بيانه : هذا مجمل القول في الإيمان ، وتفصّله الأخبار الآتية بعض التفصيل ، وأمّا الضابط الكلّي الذي يحيط بحدوده ومراتبه ، ويعرّفه حقّ التعريف ، فهو ما سنح لي بيانه في بعض مؤلفاتي من قبل هذا بنحو من عشرين سنة باستفادة من محكمات القرآن وبعض الأخبار ، ولا بأس بإيراد محصّله ها هنا ملخّصاً ، فنقول وبالله التوفيق : الإيمان الكامل الخالص المنتهي تمامه ، هو التسليم لله تعالى ، والتصديق بجميع ما جاء به النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) لساناً وقلباً ، على بصيرة ، مع امتثال جميع الأوامر والنواهي كما هي ، وذلك إنّما يمكن تحقّقه بعد بلوغ الدعوة النبويّة إليه في جميع الاُمور. أمّا من لم تصل إليه الدعوة في جميع الاُمور أو في بعضها ، لعدم سماعه أو عدم فهمه ، فهو ضالّ أو مستضعف ، ليس بكافر ولا مؤمن ، وهو أهون الناس عذاباً ، بل أكثر هؤلاء لا يرون عذاباً ، وإليهم الإشارة بقوله سبحانه : ( إلاّ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالوِلْدانِ لا يَسْتَطيعونَ حيلَةً وَلا يَهْتَدونَ سَبيلا ) (1). ومن وصلت إليه الدعوة فلم يسلم ولم يصدّق ولو ببعضها ، إمّا لاستكبار 1 ـ النساء : 97. (42)
وعلوّ ، أو لتقليد للأسلاف وتعصّب لهم ، أو غير ذلك ، فهو كافر بحسبه ، أي بقدر عدم تسليمه وترك تصديقه كفر جحود ، وعذابه عظيم على حسب جحوده ، وإليهم الإشارة بقوله سبحانه :
( إنَّ الَّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءأنْذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنونَ * خَتَمَ اللهُ عَلى قُلوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ ) (1). ومن وصلت إليه الدعوة فصدّقها بلسانه وظاهره لعصمة ماله أو دمه أو غير ذلك من الأغراض ، وأنكرها بقلبه وباطنه لعدم اعتقاده بها ، فهو كافر كفر نفاق ، وهو أشدّهم عذاباً ، وعذابه أليم بقدر نفاقه ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقولُ آمَنَّا بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وِما هُمْ بِمُؤْمِنينَ * يُخادِعونَ اللهَ وَالَّذينَ آمَنوا وَما يَخْدَعونَ إلاّ أنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرونَ * في قُلوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أليمٌ بِما كانوا يَكْذِبونَ ) ـ إلى قوله تعالى ـ ( إنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَديرٌ ) (2). ومن وصلت إليه الدعوة فاعتقدها بقلبه وباطنه ، لظهور حقّيتها لديه ، وجحدها أو بعضها بلسانه ، ولم يعترف بها حسداً وبغياً وعتوّاً وعلوّاً ، أو تقليداً وتعصّباً أو غير ذلك ، فهو كافر كفر تهوّد ، وعذابه قريب من عذاب المنافق ، وإليهم الإشارة بقوله عزّوجلّ : ( الَّذينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْرِفونَهُ كَما يَعْرِفونَ أبْناءَهُمْ وَإنَّ فَريقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمونَ ) (3) ، وقوله : 1 ـ البقرة : 6 ـ 7. 2 ـ البقرة : 8 ـ 20. 3 ـ البقرة : 146. (43)
( فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفوا كَفَروا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلى الكافِرينَ ) (1) ، وقوله :
( إنَّ الَّذينَ يَكْتُمونَ ما اُنْزِلَ مِنَ البَيِّناتِ وَالهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلْناسِ في الكِتابِ اُولـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنونَ ) (2) ، وقوله : ( وَيَقولونَ نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَكْفُرُ بِبَعْض وَيُريدونَ أنْ يَتَّخِذوا بَيْنَ ذلِكَ سَبيلا اُولـئِكَ هُمُ الكافِرونَ حَقّاً ) (3) ، وقوله : ( أفَتُؤْمِنونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرونَ بِبَعْض ) ـ إلى قوله ـ : ( أشَدِّ العَذابِ ) (4). ومن وصلت إليه الدعوة فصدّقها بلسانه وقلبه ، ولكن لا يكون على بصيرة من دينه ، إمّا لسوء فهمه مع استبداده بالرأي ، وعدم تابعيّته للإمام ، أو نائبه المقتفي أثره حقاً ، وإمّا لتقليد وتعصّب للآباء والأسلاف المستبدّين بآرائهم ، مع سوء أفهامهم ، أو غير ذلك ، فهو كافر كفر ضلالة ، وعذابه على قدر ضلالته وقدر ما يضلّ فيه من أمر الدين ، وإليهم الإشارة بقوله عزّوجلّ : ( يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلوا في دينِكُمْ وَلا تَقولوا عَلى اللهِ إلاّ الحَقَّ ) (5) حيث قالوا : عزير ابن الله ، أو المسيح ابن الله ، وبقوله تعالى : ( يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تُحَرِّموا طيِّباتِ ما أحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدوا إنَّ اللهَ 1 ـ البقرة : 89. 2 ـ البقرة : 159. 3 ـ النساء : 150 ـ 151. 4 ـ البقرة : 85. 5 ـ النساء : 171. (44)
لا يُحِبُّ المُعْتَدينَ ) (1) ، وبقول نبيّنا ( صلى الله عليه وآله ) : اتّخذوا الناس رؤساء جهّالا ، فسُئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا.
ومن وصلت إليه الدعوة فصدّقها بلسانه وقلبه على بصيرة واتّباع للإمام أو نائبه الحقّ ، إلاّ أنّه لم يمتثل جميع الأوامر والنواهي ، بل أتى ببعض دون بعض بعد أن اعترف بقبح ما يفعله ، ولكن لغلبة نفسه وهواه عليه ، فهو فاسقٌ عاص ، والفسق لا ينافي أصل الإيمان ، ولكن ينافي كماله ، وقد يطلق عليه الكفر وعدم الإيمان أيضاً ، إذا ترك كبار الفرائض ، أو أتى بكبار المعاصي ، كما في قوله عزّوجلّ : ( وَللهِ عَلى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمينَ ) (2) ، وقول النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، وذلك لأنّ إيمان مثل هذا لا يدفع عنه أصل العذاب ودخول النار ، وإن دفع عنه الخلود فيها ، فحيث لا يفيده في جميع الأحوال ، فكأنّه مفقود. والتحقيق فيه : أنّ المتروك إن كان أحد الاُصول الخمسة التي بُني الإسلام عليها ، أو المأتيّ به إحدى الكبائر من المنهيّات ، فصاحبه خارج عن أصل الإيمان أيضاً ما لم يتب ، أو لم يحدّث نفسه بتوبة ; لعدم اجتماع ذلك مع التصديق القلبي ، فهو كافر كفر استخفاف ، وعليه يحمل ما روي من دخول العمل في أصل الإيمان. روى ابن أبي شعبة عن الصادق ( عليه السلام ) ، في حديث طويل ، أنّه قال : لا يخرج المؤمن من صفة الإيمان إلاّ بترك ما استحق أن يكون به مؤمناً ، وإنّما استوجب واستحقّ اسم الإيمان ومعناه بأداء كبار الفرائض موصولة ، 1 ـ المائدة : 87. 2 ـ آل عمران : 97. (45)
وترك كبار المعاصي واجتنابها ، وإن ترك صغار الطاعة وارتكب صغار المعاصي ، فليس بخارج من الإيمان ، ولا تارك له ما لم يترك شيئاً من كبار الطاعة ، وارتكاب شيء من كبار المعاصي ، فما لم يفعل ذلك فهو مؤمن ، يقول الله : ( إنْ تَجْتَنِبوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفَّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَريماً ) (1) ، يعني مغفرة ما دون الكبائر ، فإن هو ارتكب كبيرة من كبائر المعاصي كان مأخوذاً بجميع المعاصي صغارها وكبارها ، معاقباً عليها ، معذّباً بها. إلى هنا كلام الصادق ( عليه السلام ).
إذا عرفت هذا فأعلم أنّ كلّ من جهل أمراً من اُمور دينه بالجهل البسيط فقد نقص إيمانه بقدر ذلك الجهل ، وكلّ من أنكر حقّاً واجب التصديق لاستكبار أو هوىً أو تقليد أو تعصّب ، فله عرق من كفر الجحود ، وكلّ من أظهر بلسانه ما لم يعتقد بباطنه وقلبه ، بغير غرض ديني كالتقيّة في محلّها ونحو ذلك ، أو عمل عملا اُخروياً لغرض دنيوي ، فله عرق من النفاق ، وكلّ من كتم حقاً بعد عرفانه ، أو أنكر ما لم يوافق هواه وقبل ما يوافقه ، فله عرق من التهوّد ، وكلّ من استبدّ برأيه ولم يتبع إمام زمانه ، أو نائبه الحقّ ، أو من هو أعلم منه في أمر من الاُمور الدينيّة ، فله عرق من الضلالة ، وكلّ من أتى حراماً أو شبهة ، أو توانى في طاعة مصرّاً على ذلك ، فله عرق من الفسوق ، فإن كان ذلك ترك كبير فريضة أو إتيان كبير معصية ، فله عرق من كفر الاستخفاف. ومن أسلم وجهه لله في جميع الاُمور من غير غرض وهوى ، واتّبع إمام زمانه أو نائبه الحقّ ، آتياً بجميع أوامر الله ونواهيه من غير توان ولا مداهنة ، فإذا أذنب ذنباً استغفر من قريب وتاب ، أو زلّت قدمه استقام وأناب ، فهو المؤمن الكامل الممتحن ، ودينه هو الدين الخالص ، وهو الشيعي حقّاً والخاصّي صدقاً ، اُولئك 1 ـ النساء : 31. |
|||
|