زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: 76 ـ 90
(76)
في المحلّى ـ كما مرّ بيانه بالتفصيل ـ وتعجّب عن القول بالطهارة قائلا : ولا عجب في الدنيا أعجب ممّن يقول ـ فيمن نصّ الله تعالى أنّهم نجس ـ : أنّهم طاهرون ، ثمّ يقول في المني الذي لم يأتِ قطّ بنجاسته نصّ ، أنّه نجس ، ويكفي في هذا القول سماعه ونحمد الله على السلامة (1) ...
    فالمسألة خلافية عند القوم وإن ذهب معظمهم إلى طهارة المشركين والكفّار.
1 ـ من هامش التنقيح في شرح العروة الوثقى 2 : 42.

(77)
    لقد ذكرنا في صدر الفصل الأوّل أنّ مسألة الكفّار في نجاستهم أو طهارتهم إنّما هي مسألة اختلافية بين علماء المذاهب ، وإن كان المشهور عند أئمة السنّة وأبناء العامّة طهارة المشركين ، كما إنّه اشتهر بين أصحابنا الأعلام نجاستهم ، ولكن لا زالت ، مسألة مختلف فيها ، لا سيّما بالنسبة إلى الكفّار الكتابيين من اليهود والنصارى والمجوس على قول ، ومقصودنا من هذا الفصل أن نشير إلى أقوال بعض الأعلام ، وفي الفصول القادمة سوف نتعرّض إلى وجوه الاستدلال على الأقوال ، ثمّ ما نذهب إليه إن شاء الله تعالى.
    جاء في مفتاح الكرامة (1) في بيان الأعيان النجسة ، قال ( قدس سره ) : والكافر مشركاً أو غيره ، ذميّاً أو غيره ، إجماعاً في الناصريات والانتصار والغنية والسرائر والمعتبر والمنتهى والبحار والدلائل وشرح الفاضل وظاهر التذكرة ونهاية الإحكام وفي التهذيب إجماع المسلمين عليه. قال الفاضل الهندي وكأنّه أراد إجماعهم على نجاستهم في الجملة لنصّ الآية الشريفة ، وإن كان العامّة
1 ـ مفتاح الكرامة 1 : 142 ، طبع مؤسسة آل البيت ـ قم.

(78)
يأوّلونها بالحكميّة ، وفي الغنية : أنّ كلّ من قال بنجاسة المشرك قال بنجاسة غيره من الكفّار ، وفي حاشية المدارك : أنّ الحكم بالنجاسة شعار الشيعة ، يعرفه علماء العامّة منهم ، بل وعوامّهم يعرفون إنّ هذا مذهب الشيعة ، بل ونسائهم وصبيانهم يعرفون ذلك. جميع الشيعة يعرفون أنّ هذا مذهبهم في الأعصار والأمصار. ونقل عن القديمين ـ ابن جنيد وابن أبي عقيل ـ القول بعدم نجاسة أسآر اليهود والنصارى ، وعن ظاهر المفيد في رسالته العزّية ، وربما ظهر ذلك في موضع من النهاية حيث قال : ويكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه ، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه ، ثمّ يأكل معه إن شاء ، لكنّه صرّح قبله في غير موضع بنجاستهم على اختلاف مللهم ، وخصوصاً أهل الذمّة ، ولذا اعتذر عنه المحقّق في النكت بالحمل على الضرورة أو المواكلة في اليابس ، قال : وغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينيّة ، وإن لم تفد طهارة اليد ، واعتذر عنه ابن إدريس بأنّه ذكر ذلك إيراداً لا اعتقاداً ، ومال إلى طهارتهم صاحب المدارك والمفاتيح ، قال الاُستاذ في حاشية المدارك : لا يحسن جعل ابن أبي عقيل من جملة القائلين بعدم نجاسة هؤلاء مع تخصيصه عدم النجاسة بأسآرهم لأنّه لا يقول بانفعال الماء القليل ، والسؤر عند الفقهاء الماء القليل الذي لاقاه فم حيوان أو جسمه. قال : والكراهة في كلام المفيد لعلّه يريد منها المعنى اللغوي ، فيكون ابن الجنيد هو المخالف فقط. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    وقال المحقّق الحلي (1) : إذا لاقى الكلب والخنزير والكافر المحكوم بنجاسته عينه
1 ـ المعتبر : 122 ، الطبعة الحجرية.

(79)
ثوباً أو جسداً وهو رطب ، غسل موضع الملاقاة وجوباً ، وإن كان يابساً رشّ الثوب بالماء استحباباً ، وهو مذهب علمائنا أجمع.
    وقال المحقق السبزواري (1) : من النجاسات : الكافر بجميع أصنافه وإن أظهر الإسلام إذا جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة كالخوارج وهم أهل نهروان ومن دان بمقالتهم ، سمّوا بذلك لخروجهم على الإمام ( عليه السلام ) بعد أن كانوا من حزبه ، أو لخروجهم من الإسلام ، كما وصفهم النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بأنّهم يمرقون عن الدين كما يمرق السهم من الرامي ، ونقل عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : أنّهم مشركون ، والغلاة ، وهم الذين اعتقدوا في واحد من الأئمة أنّه الإله ، وقد يطلق الغالي على من قال بإلهية أحد من الناس ، واعلم أنّ جماعة من الأصحاب ادّعوا الإجماع على نجاسة كلّ كافر ، كالمرتضى والشيخ وابن زهرة والمصنّف في عدّة من كتبه ، لكنّ المصنّف في المعتبر أشار إلى نوع خلاف فيه ، فقال : الكفّار قسمان : يهود ونصارى ومن عداهما ، أمّا القسم الثاني : فالأصحاب متّفقون على نجاستهم ، وأمّا الأوّل : فالشيخ قطع في كتبه بنجاستهم ، وكذا علم الهدى والأتباع وابنا بابويه ، وللمفيد قولان : أحدهما : النجاسة ، ذكره في أكثر كتبه ، والآخر : الكراهة ، ذكره في الرسالة العزيّة ، وقد تنسب المخالفة إلى الشيخ في النهاية ، وابن الجنيد أيضاً ، لكن في نسبة ذلك إلى النهاية تأمّل ، فتلخّص من ذلك أنّ القول بنجاسة من عدا اليهود والنصارى والمجوس من أصناف الكفّار موضع وفاق بين الأصحاب ، وقد صرّح بذلك المحقّق وغيره ، وأمّا أهل الكتاب فالظاهر من كلام ابن الجنيد المخالفة فيه ، ويوافقه المفيد في أحد قوليه ، ولعلّ مدّعي الإجماع يعتقد رجوع المفيد إلى موافقه المشهور
1 ـ ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد : 150 ، طبع مؤسسة آل البيت ، الحجرية.

(80)
مع عدم اعتداده بمخالفة ابن الجنيد ، لأنّه يعمل بالقياس ، لكنّ القول بطهارة سؤرهم ممّـا نسبه بعض المتأخّرين إلى ابن أبي عقيل أيضاً ، والعجب أنّ الشيخ في التهذيب نقل إجماع المسلمين على نجاسة الكفّار مطلقاً ، مع أنّ مخالفة جمهور العامة لهذا الحكم ممّـا لا خفاء فيه ، حتّى أنّ السيّد المرتضى جعلها من متفرّدات الإمامية. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    أقول : لقد ذكر المتأخّرون اتّفاق الفقهاء وإجماعهم على نجاسة الكفّار ، إلاّ أنّهم يذكرون مخالفة القديمين (1) ابن الجنيد الإسكافي والحسن بن أبي عقيل العمّاني والشيخين الطوسي في النهاية والمفيد على ما في رسالته العزيّة ، فحاول بعض الأعلام كصاحب كشف الغطاء توجيه ذلك كما مرّ بيانه في ( مفتاح الكرامة 1 : 142) وفي ( ذخيرة المعاد : 150) كذلك ، وهذه المحاولات والاعتذار وتوجيه كلام القدماء حتّى يتمّ الإجماع والاتّفاق ، إنّما هو لما اشتهر عندهم ، أنّ الاستنباط واستخراج الأحكام الشرعية الفقهيّة إنّما يكون من خلال :
    1 ـ ظواهر الآيات الشريفة في كتاب الله الكريم.
    2 ـ ظواهر السنة النبوية أو الولوية المتواترة لفظاً أو معنىً أو إجمالا.
1 ـ قال العلاّمة الطباطبائي السيّد بحر العلوم في خلاصة الأقوال في معرفة الرجال في ترجمة ابن أبي عقيل : إنّ رجال هذا الشيخ الجليل في الثقة والعلم والفضل والكلام والفقه أطهر من أن يحتاج إلى بيان ، وللأصحاب مزيد اعتناء بنقل أقواله وضبط فتاواه خصوصاً الفاضلين ومن تأخّر عنهما ، وهو أوّل من هذّب الفقه واستعمل النظر ـ أي الإجتهاد ـ وفتق البحث عن الاُصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ، وبعده الشيخ الفاضل ابن الجنيد ( تنقيح المقال 1 : 291) راجع ترجمته إلى كتاب ( معجم الرجال ) للآية العظمى السيّد الخوئي ( قدس سره ) 5 : 23.

(81)
    3 ـ ظواهر الأخبار والروايات المأثورة عن المعصومين ( عليهم السلام ) بطريق الآحاد لو كان من الثقات ، أو قيل بحجيّتها شرعاً أو عقلا من باب حجيّة مطلق الظنّ.
    4 ـ تقرير المعصوم ( عليه السلام ) بشرائطه المقرّرة في علم الكلام كقوله وفعله ( عليه السلام ).
    5 ـ فتاوى قدماء الأصحاب في المسائل الأصليّة التي من شأنها أن تتلّقى من المعصومين ( عليهم السلام ) ، إذا كانت كاشفة عن وجود حجّة معتبرة عندنا كالنصّ أو الظاهر أو أخذ الحكم خلفاً عن سلف مشافهة.
    بل عن الشهيد في الذكرى كفاية فتوى فقيه واحد في الاستكشاف حيث قال : الأصل الثالث : الإجماع وهو اتّفاق علماء الطائفة على أمر في عصر ـ إلى أن قال ـ : وقد كان الأصحاب يتمسّكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن بن بابويه ( رحمه الله ) عند إعواز النصوص لحسن ظنّهم به ، وإنّ فتواه كروايته. انتهى.
    فكان من دأب بعض القدماء عدم الفتوى إلاّ بالنّص الأعمّ من الصريح أو الظاهر ، أمثال : الشيخ علي بن موسى بن بابويه في رسالة شرايعه ، وولده محمّد ابن علي بن بابويه في مقنعه بل وهدايته وفي من لا يحضره الفقيه ، والحسن بن علي ابن أبي عقيل العماني في المتمسك بحبل آل الرسول ، الذي يعدّ أوّل رسالة عملية عند الشيعة وكان متداولا عند الخراسانيين (1) كما قيل ، والشيخ الجليل محمّد بن محمّد ابن النعمان المشهور بالشيخ المفيد ( قدس سره ) في مقنعته ، والشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة في غير كتابي المبسوط والخلاف كما يظهر من عبارته في أوّل
1 ـ جاء ذلك في رجال النجاشي : 36 ، كما في تنقيح المقال (1 : 291) : ما ورد الحاجّ من خراسان إلاّ طلب واشترى منه نسخ.

(82)
المبسوط ، ومحمّد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي (1) ، والسيّد المرتضى علم الهدى ، والسيّد الرضي ، وسلاّر بن عبد العزيز ، والقاضي عبد العزيز ابن البّراج ، وعلي ابن حمزة الطوسي ، وأمثالهم قدّس الله أسرارهم الزكيّة.
    ولقد كان الآية العظمى السيّد البروجردي يحثّ تلامذته في درسه الخارج إلى مراجعة فتاوى القدماء من أصحابنا الأخيار ، معلّلا ذلك بأنّهم كانوا يتلقّون المسائل الفقهيّة غالباً من النصوص الواردة عن أهل بيت الوحي والنبوّة ( عليهم السلام ) (2).
    ومن هذا المنطلق نرى أنّ المتأخّرين كثيراً ما يهابون مخالفة القدماء صراحةً ، إنّما يحاولون توجيه كلامهم ، والاعتذار عنهم بوجه من الوجوه ، كما علم ذلك فيما نحن فيه ، فتدبّر.
    عود على بدء :
    وممّن قال بنجاسة الكافر : الشيخ ابن إدريس الحلي في السرائر (3) ، في النجاسات : وأسآر الكفّار على اختلاف ضروبهم من مرتدّ وكافر أصلي وكافر ملّي ومن حكمه حكمهم. وجملة الأمر وعقد الباب أنّ ما يؤثّر بالتنجيس على ثلاثة أضرب : أحدهما يؤثّر بالمخالطة ، وثانيها بالملاقاة ، وثالثها بعدم الحياة ...
1 ـ في المختصر الأحمدي في الفقه المحمّدي.
2 ـ اقتباس من مقدّمة كتاب « رسالتان مجموعتان من فتاوى العلمين » علي بن الحسين ابن بابويه المتوفّى 329 ، والحسن بن علي بن أبي عقيل العماني المتوفّى بعده : 8.
3 ـ السرائر 1 : 179 ، طبع مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم.


(83)
    والثاني : أن يماسّ الماء وغيره حيوان نجس العين ، وهو الكلب والخنزير والكافر ...
    وكذلك فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحليّ في كتابه إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد (1).
    وقال المحقّق الكركي في جامع المقاصد في شرح القواعد (2) ، في قول المصنّف من النجاسات : الكافر سواء كان أصلياً أو مرتدّاً وسواء إنتمى إلى الإسلام كالخوارج والغلاة أو لا ... والأقرب طهارة المسوخ. ومن عدّ الخوارج والغلاة والنواصب والمجسّمة من المسلمين قال : المراد بالخوارج أهل نهروان ومن دان بمقالتهم ، والغلاة جمع غال : وهم الذين زادوا في الأئمة ( عليهم السلام ) فاعتقدوا فيهم أو في أحدهم أنّه إله ونحو ذلك. والنواصب جمع ناصب : وهم الذين ينصبون العداوة لأهل البيت ( عليهم السلام ) ولو نصبوا لشيعتهم ; لأنّهم يدينون بحبّهم فكذلك. وأمّا المجسّمة فقسمان : بالحقيقة ، وهم الذين يقولون : إنّ الله تعالى جسم كالأجسام ، والمجسّمة بالتسمية المجرّدة ، وهم القائلون بأنّه جسم لا كالأجسام ، وربما تردّد بعضهم في نجاسة القسم الثاني ، والأصحّ نجاسة الجميع. إذا تقرّر ذلك ، فنجاسة هؤلاء الفرق الأربع لا كلام فيها ، إنّما الخلاف في نجاسة كلّ من خالف أهل الحقّ مطلقاً ـ كما يقوله المرتضى ـ أو نجاسة المجبّرة من أهل الخلاف ـ وهو قول الشيخ ـ والقولان ضعيفان. واعلم أنّ حكم المصنّف لطهارة من عدا الفرق الأربع من المسلمين مشكل ، فإنّ من أنكر شيئاً من ضروريات الدين ، ولم يكن أحد هؤلاء لا ريب في نجاسته. انتهى كلامه.
1 ـ إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد 1 : 26 ، طبع مؤسسة إسماعيليان ـ قم.
2 ـ جامع المقاصد في شرح القواعد 1 : 164 ، طبع مؤسسة آل البيت ـ قم.


(84)
    والسيّد المرتضى إنّما قال ذلك في كتابه « الانتصار » (1) ، وجاء في إيضاح الفوائد (2) ، وذهب المرتضى إلى نجاسة غير المؤمن لقوله تعالى ( كَذلِكَ يَجْعَلِ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الَّذينَ لا يُؤْمِنونَ ) (3) ، ولقوله تعالى : ( إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامَ ) (4) ، ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (5) ، والإيمان يستحيل مغايرته للإسلام ، فمن ليس بمؤمن ليس بمسلم ، وليس بجيّد ; لقوله تعالى : ( قالَتِ الأعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنوا وَلكِنْ قولوا أسْلَمْنا ) (6) ، ولقوله ( عليه السلام ) : « اُمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله ». والمراد بالإيمان هنا : الإسلام ، استعمالا للفظ الخاصّ في العامّ. انتهى كلامه.
    لقد ذكرنا حكم هؤلاء الفرق الأربعة ـ الخوارج والغلاة والنواصب والمجسّمة ـ وغيرهم والمخالفين بصورة عامة فيما مرّ ، فلا نعيده ، وإنّما أردت الإشارة هنا تتميماً للفائدة ، كما سنذكر تفصيل ذلك في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.
1 ـ الانتصار : 10.
2 ـ إيضاح الفوائد 1 : 27.
3 ـ الأنعام : 125.
4 ـ آل عمران : 19.
5 ـ آل عمران : 85.
6 ـ الحجرات : 14.


(85)
    ذهب المشهور من أصحابنا الأخيار إلى نجاسة المشركين والكفّار ، واستدلّوا على ذلك بوجوه من الإجماع بقسميه ـ المحصّل والمنقول ـ والآيات الكريمة والروايات الشريفة :
    فالأوّل : الإجماع والشهرة الفتوائيّة ، وهما كما ترى. فإنّ الإجماع الذي يعدّ دليلا فيما لو كان تعبّدياً كاشفاً عن قول المعصوم ( عليه السلام ) ، باللطف أو الحدس أو غيرهما على اختلاف المباني ، كما هو ثابت ومذكور في محلّه من علم اُصول الفقه ، ثمّ إمّا أن يكون محصّلا ، وهو نادر ، والنادر كالمعدوم ، وإمّا أن يكون منقولا ، ويدخل تحت عنوان الظنّ المطلق ، الذي ثبت عدم حجيّته بالأدلّة الأربعة كما عند شيخنا الأعظم الشيخ الأنصاري ( قدس سره ) في فرائده ، ومن تبعه إلى يومنا هذا من الفقهاء المعاصرين ، وهناك إجماعاً مدركيّاً بمعنى اتّفاق الفقهاء في عصر ومصر على مسألة لما عندهم من المدارك والمسانيد الشرعية ، من الآيات الكريمة والروايات الشريفة ، وهذا لا يكون عندنا حجّة أيضاً ، لأنّه نرجع إلى المدارك لنستنبط منها حسب الإجتهاد واستفراغ الوسع ، فربما نتّفق معهم وربما نخالفهم ، وفهمهم من المدارك إنّما


(86)
هو حجّة لهم ولمن قلّدهم ، وكثير من الإجماعات المنقولة إنّما هي من الإجماع المدركي ، فلا يعدّ دليلا مستقلاّ ، نعم إنّما يكون من المؤيّدات للأدلّة الاُخرى.
    وأمّا الشهرة الفتوائية فهي أيضاً من الظنّ المطلق الذي ليس بحجّة إلاّ ما خرج بالدليل ، كخبر الثقة وظواهر الكتاب. وأمّا ما ورد في الأخبار العلاجية من قوله ( عليه السلام ) : « خذ ما اشتهر بين أصحابك » فإنّ المراد : الشهرة الروائية ودع الشاذّ من الأخبار.
    فما قيل من الإجماع والشهرة الفتوائية فيما نحن فيه ، فإنّهما لو ثبتت الأدلّة الاُخرى من الآيات والروايات إنّما تكونا من المؤيّدات ، فتدبّر.
    وقد ذكرنا بعض من يدّعي الإجماع في نجاسة الكفّار من كتاب مفتاح الكرامة (1) ، وكذلك جاء في منتهى المطلب (2) ، قال العلاّمة الحلّي : الكفار أنجاس ، وهو مذهب علمائنا أجمع سواء كانوا أهل كتاب أو حربيّين أو مرتدّين ، وعلى أيّ صنف كانوا ، خلافاً للجمهور.
    وقال العلاّمة الجواد الكاظمي في مسالكه (3) : وقد أطبق علماؤنا على نجاسة من عدا اليهود والنصارى من أصناف الكفّار. وقال أكثرهم بنجاسة هذين الصنفين أيضاً ، والمخالف في ذلك ابن الجنيد وابن أبي عقيل والمفيد في المسائل العزيّة ، لما في بعض الروايات المعتبرة من الإشعار بطهارتهم ، وهي محمولة على ضرب من التأويل ، كما يعلم من محلّه.
1 ـ مفتاح الكرامة 1 : 142.
2 ـ منتهى المطلب 1 : 168 ، الطبعة الحجرية.
3 ـ المسالك ( للعلاّمة الجواد الكاظمي ) 1 : 102.


(87)
    ولكن ذكرنا في الفصل الثاني ما جاء في مفتاح الكرامة (1) من : أنّ المخالف ابن الجنيد فقط ، وذلك بقوله : طهارة المشرك مطلقاً ـ كما عند أبناء العامّة ; ولعلّ قوله هذا باعتبار أنّه كان منهم ثمّ هداه الله واستبصر فلا يؤخذ بقوله ـ وأمّا المفيد فمراده من الكراهة المعنى اللغوي ، وأمّا ابن أبي عقيل فباعتبار ما عنده من الفتوى في الأسآر بأ نّها من الماء القليل ، وعنده عدم انفعاله بالنجاسة.
    وقال صاحب جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام (2) ، في بيان الأعيان النجسة : العاشر : الكافر : إجماعاً في التهذيب والانتصار والغنية والسرائر والمنتهى وغيرها ، وظاهر التذكرة بل في الأوّل من المسلمين ، لكن لعلّه يريد النجاسة في الجملة ، لنصّ الآية الشريفة (3) ، وإن كانت العامّة يؤوّلونها بالحكميّة لا العينيّة ، نعم هي كذلك عندنا من غير فرق بين اليهود والنصارى وغيرهم ، كما هو صريح معقد إجماع المرتضى وظاهر غيره ، بل صريحه ، ولا بين المشرك وغيره ، ولا بين الأصلي والمرتدّ. ولعلّ ما عن عزيّة المفيد من الكراهة في خصوص اليهود والنصارى يريد بها الحرمة ، كما يؤيّده اختياره لها في أكثر كتبه على ما قيل ، وعدم معروفية حكاية خلافه كنقل الإجماع من تلامذته ، مع أنّه المؤسّس للمذهب.
    وما عن موضع من نهاية الشيخ : « ويكره أن يدعو الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه ، فإن دعاه فليأمر بغسل يديه ثمّ يأكل معه إن شاء » ، محمول ـ كما عن نكت المصنّف ـ على المؤاكلة باليابس أو الضرورة ، وغسل اليد لزوال
1 ـ مفتاح الكرامة 1 : 142.
2 ـ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 6 : 41 ، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
3 ـ التوبة : 28.


(88)
الاستقذار النفساني الذي يعرض من ملاقاة النجاسة ، أو على ما ذكره ابن إدريس في السرائر : من أنّه أورد الرواية الشاذّة إيراداً لا اعتقاداً ، ويؤيّدهما ـ مضافاً إلى نفي الخلاف فيها ، بل قيل في غير موضع منها بنجاسة الكفّار على اختلاف مللهم.
    وأمّا ما عن مختصر ابن الجنيد ـ من أنّه لو تجنّب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم ، وكذلك ما وضع في أواني مستحلّ الميتة ومؤاكلتهم ما لم يتيقّن طهارة أوانيهم وأيديهم كان أحوط ـ فهو مع عدم صراحته أيضاً ، بل ولا ظهوره عند التأمّل ، غير قادح فيما ذكرنا بعد مرفوضية أقواله عندنا ، لما قيل من عمله بالقياس ، كالمحكي عن ابن أبي عقيل من عدم نجاسة سؤر اليهود والنصارى ، مع أنّه لعلّه لعدم نجاسة القليل عنده بالملاقاة ، إذ السؤر عند الفقهاء على ما قيل : الماء القليل الذي لاقاه فم حيوان أو جسمه ، بل قد يشعر تخصيصه عدم النجاسة بالسؤر بموافقته فيها في غيره ، فلا خلاف حينئذ يعتدّ به بيننا في الحكم المزبور ، بل لعلّه من ضروريات مذهبنا ، ولقد أجاد الاُستاذ الأكبر ـ كاشف الغطاء ( قدس سره ) ـ بقوله : إنّ ذلك شعار الشيعة ، يعرفه منهم علماء العامّة وعوامّهم ونساؤهم وصبيانهم ، بل وأهل الكتاب فضلا عن الخاصّة. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
    وقال السيّد الحكيم في مستمسك العروة الوثقى (1) ، في قوله : ( الثامن : الكافر بأقسامه ) : إجماعاً محكيّاً في جملة من كتب الأعيان ، كالناصريات والانتصار والغنية والسرائر والمعتبر والمنتهى والبحار والدلائل وكشف اللثام وظاهر التذكرة ونهاية الإحكام ـ على ما حكي عنها ـ بل عن التهذيب : إجماع المسلمين. لكنّ القول بالطهارة هو المعروف عند المخالفين. انتهى كلامه.
1 ـ مستمسك العروة الوثقى 1 : 367 ، طبع مكتبة آية الله النجفي المرعشي.

(89)
    ثمّ قال (1) ، بعد بيان الأخبار المتعارضة في نجاسة الكتابيين وطهارتهم : وكيف كان نقول : إن أمكن البناء على المناقشات المذكورة في هذه النصوص ـ ولو للجمع بينها وبين ما دلّ على النجاسة ـ فهو المتعيّن ، وإن لم يمكن ذلك ـ لبعد المحامل المذكورة ، وإباء أكثر النصوص عنها ـ فالعمل بنصوص الطهارة غير ممكن ، لمخالفتها للإجماعات المستفيضة النقل ـ كما عرفت ـ بل للإجماع المحقّق ـ كما قيل ـ فإنّ مخالفة ابن الجنيد ـ لو تمّت ـ لا تقدح في الإجماع ، فكم لها منه ( رحمه الله ) من نظير محكيّ عنه ؟! وما عن ابن أبي عقيل من طهارة سؤر الذمي ، لعلّه مبنيّ على مذهبه من عدم انفعال الماء القليل ، وما عن المفيد ( رحمه الله ) من التعبير بكراهة سؤري اليهودي والنصراني لعلّ مراده منه : الحرمة ، كما يشهد به ـ كما قيل ـ عدم نسبة الخلاف إليه من أحد أتباعه الذين هم أعرف بمذهبه من غيرهم. وما عن الشيخ ( رحمه الله ) في النهاية من أنّه يكره للإنسان أن يدعو أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه ، فإن دعاه فليأمره بغسل يده ، لعلّ المراد منه مجرّد المؤاكلة ، لا مع المساورة ، كما تقدّم احتماله في النصوص. ويشهد لذلك ـ مضافاً إلى ما هو المعروف من أنّ النهاية مؤلّفة من متون الأخبار لا كتاب فتوى ـ أنّه حكي عنه ذكر قبل ذلك بقليل : أنّه لا تجوز مؤاكلة الكفّار ... إلى أن قال : « لأنّهم أنجاس ينجّسون الطعام بمباشرتهم إيّاه. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    وممّن نقل الإجماع السيّد الطباطبائي في رياض المسائل (2) ، فقال ـ بعد بيان الضابط في معنى الكافر ـ : والحجّة في الحكم ـ أي نجاسته ـ بعد الإجماعات
1 ـ مستمسك العروة الوثقى 1 : 374.
2 ـ رياض المسائل 1 : 85 ، طبع مؤسسة آل البيت ـ قم.


(90)
المستفيضة المحكيّة عن الناصريات والانتصار والسرائر والغنية والمنتهى وظاهر نهاية الإحكام والتذكرة الآية الكريمة ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، إلى آخره.
    وقال المحقّق الفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع (1) ، في بيان نجاسة الكلب والخنزير والكافر : الكلب والخنزير ـ غير المائيّين ـ والكافر ـ غير اليهودي والنصراني والمجوسي ـ نجسة عيناً ولعاباً بالإجماع ، والصحاح في الأوّل مستفيضة وبالثاني واردة ، وفي القرآن : ( فَإنَّهُ رِجْسٌ ) (2) ، وللثالث : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) (3) ، و ( كَذلِكَ يَجْعَلِ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الَّذينَ لا يُؤْمِنونَ ) (4).
    وقال المحقّق البحراني في حدائقه الناضرة (5) : وقد حكي عن جماعة دعوى الإجماع على نجاسة الكافر بجميع أنواعه المذكورة كالمرتضى والشيخ وابن زهرة والعلاّمة في جملة من كتبه ، إلاّ أنّ المفهوم من كلام المحقّق في المعتبر الإشارة إلى الخلاف في بعض هذه المواضع ، حيث قال : الكفّار قسمان : يهود ونصارى ومن عداهما ، أمّا القسم الثاني فالأصحاب متّفقون على نجاستهم ، وأمّا الأوّل فالشيخ في كتبه قطع بنجاستهم وكذا علم الهدى والأتباع وابن بابويه وللمفيد قولان : أحدهما النجاسة ذكره في أكثر كتبه ، والآخر الكراهة ذكره في الرسالة العزيّة.
    ثمّ يذكر المصنّف ما جاء في المعالم في مخالفة الشيخ في النهاية وابن الجنيد
1 ـ مفاتيح الشرائع 1 : 70 ، نشر مجمع الذخائر ـ قم.
2 ـ الأنعام : 145.
3 ـ التوبة : 28.
4 ـ الأنعام : 125.
5 ـ الحدائق الناضرة 5 : 162 ، نشر جامعة المدرّسين بقم.
زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: فهرس