زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: 91 ـ 105
(91)
وتوجيه كلامهما كما مرّ ذلك ، ثمّ قال : الظاهر أنّ من ادّعى الإجماع من أصحابنا في هذه المسألة على النجاسة ، بنى على رجوع المفيد باعتبار تصريحه فيما عدا الرسالة المذكورة من كتبه بالنجاسة وعدم الاعتداد بخلاف ابن الجنيد لما شنّعوا عليه به من عمله بالقياس ، إلاّ أنّه نقل القول بذلك في باب الأسآر عن ابن أبي عقيل ( قدس سره ) ، ثمّ العجب أنّ الشيخ ( قدس سره ) في التهذيب نقل إجماع المسلمين على نجاسة الكفّار مطلقاً مع مخالفة الجهور في ذلك ، حتّى أنّ المرتضى ( قدس سره ) جعل القول بالنجاسة من متفرّدات الإمامية. انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    ثمّ قال بعد بيان الاستدلال بالآية الشريفة وأجوبة المناقشات والاشكالات : وبالجملة فإنّ دلالة الآية على النجاسة كنجاسة الكلاب ونحوها ممّا لا إشكال فيه ، كما عليه كافّة الأصحاب إلاّ الشاذّ النادر في الباب ، ومناقشة جملة من أفاضل متأخّري المتأخّرين كما نقلنا عنهم مردودة بما عرفت (1).
    وقال الشيخ البهائي ( قدس سره ) في كتابه حبل المتين (2) : وقد اتّفق أصحابنا رضوان الله عليهم على نجاسة من عدا اليهود والنصارى ، والأكثر على أنّه لا فرق بينهم وبين غيرهم ، بل ادّعى عليه الشيخ في التهذيب والمرتضى وابن إدريس الإجماع ، والمنقول عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد والمفيد في المسائل العزّية عدم نجاسة سؤرهم.
    وقال سيّدنا الخوئي ( قدس سره ) في التنقيح (3) : المعروف بين أصحابنا من المتقدّمين
1 ـ الحدائق الناضرة 5 : 166.
2 ـ حبل المتين : 99 ، طبع مكتبة بصيرتي ـ قم.
3 ـ التنقيح 2 : 41 ، طبع إيران.


(92)
والمتأخّرين نجاسة الكافر بجميع أصنافه بل ادّعي عليها الإجماع ، وثبوتها في الجملة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، وذهب بعض المتقدّمين إلى طهارة بعض أصنافه وتبعه على ذلك جماعة من متأخّري المتأخّرين.
    وتوضيح الكلام في هذا المقام : أنّه لا إشكال ولا شكّ في نجاسة المشركين ، بل نجاستهم من الضروريات عند الشيعة ، ولا نعهد فيها مخالفاً من الأصحاب ، نعم ذهب العامّة إلى طهارتهم ولم يلتزم منهم بنجاسة المشرك إلاّ القليل ، وكذا لا خلاف في نجاسة الناصب ، بل هو أنجس من المشرك على بعض الوجوه ، ففي موثّقة ابن أبي يعفور : « فإنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب ، والناصب لنا أهل البيت لأنجس منه » ، كما أنّه ينبغي الجزم بنجاسة غير المشرك من الكفّار فيما إذا التزم بما هو أسوأ وأشدّ من الشرك في العبادة كإنكار وجود الصانع رأساً ، لأنّ المشركين غير منكرين لوجوده سبحانه ، وإنّما يعبدون الأصنام والآلهة يتقرّبوهم إلى الله زلفى ... ومن البديهي أنّ إنكار وجوده تعالى أسوأ من ذلك وأشدّ ، فهو أولى بالحكم بالنجاسة من المشرك بالضرورة.
    أقول : إنّما تتمّ هذه الأولويّة لو كانت النجاسة منصوصة العلّة ، كما هو الظاهر فيما نحن فيه ، فإنّها من أجل شركهم وعبادتهم الأصنام ، فكيف من ينكر الله سبحانه ، فهو أولى بالنجاسة كما أنّ الكلب نجس العين ، فلمّا كان الناصب أشرّ منه للزم أن يكون أنجس منه وأولى بالنجاسة ، كما في موثّقة أبي يعفور.
    وقال الشيخ آقا ضياء الدين العراقي في شرح تبصرة المتعلّمين (1) : من النجاسات : الكافر : بلا إشكال في الأصلي منه فتوى ونصاً ـ الوسائل ، باب 14 من أبواب النجاسات ، كتاب الطهارة ـ خصوصاً الآية الشريفة ـ سورة
1 ـ شرح تبصرة المتعلّمين 1 : 237.

(93)
التوبة ، الآية 28 ـ الملحق فيها غير المشرك من فرق الكفّار بالمشركين ، وعلى المشهور فالذمي ملحق بهم ، خصوصاً مع كونهم مشركين بسبب اعتقادهم في عزير أو المسيح أنّه ابن الله. وعليه أيضاً نصوص ـ الباب 14 من أبواب النجاسات ـ آمرة بالاجتناب عنهم ، وفي قبالها نصوص صريحة في عدم نجاستهم الذاتية ، وأنّ حكمة التحرّز عنهم عدم توقّيهم عن النجاسات العرضية ، ومقتضى الجمع بينها في غاية الوضوح ، بحمل الآمرة بالاجتناب على مجرّد الرجحان ، أو يجعل وجه الاجتناب نجاستهم العرضية ، أو التفصيل بين الاختيار والاضطرار ، بشهادة رواية علي بن جعفر من قوله : « إلاّ أن يضطرّ إليه ».
    ولكن مع ذلك كلّه ، فإنّ بناء المشهور على حمل أخبار الطهارة على التقيّة ، مع ما فيه من الإشكال ، لأنّ مثل هذا الحمل خلاف ديدنهم من تقديم الجمع الدلالي على التصرّف في الجهة ، ونظير هذا البناء والإشكال جار في أخبار الماء القليل وأخبار حِلّ ذبيحتهم.
    وحلّ الإشكال ـ عن الأصحاب في جميع هذه المقامات ـ هو أن يقال : بأنّ بنائهم على طرح هذه الروايات في أمثال هذه الأبواب. وذلك يكشف عن أنّهم وجدوا منذ الصدر الأوّل خللا في جهتها ، بنحو صار أصل الجهة مع قطع النظر عن شيء آخر موهوناً جداً. ومثل هذه الجهة غير مرتبطة بمقام تقديم التصرّف الجهتي على الدلالي كما لا يخفى.
    وقال الشهيد الأوّل في الدروس (1) ، في الأعيان النجسة : والكافر أصلياً أو مرتدّاً أو منتحلا للإسلام جاحداً بعض ضرورياته كالخارجي والناصبي والغالي والمجسّمي.
1 ـ الدروس : 17.

(94)
    وقال ابن حمزة الطوسي (1) : ... والكافر والناصب فإنّه يجب غسل الموضع الذي مسّه رطباً بالماء ، ثوباً كان أو بدناً ، ورشّه بالماء إن مسّ الثوب يابسين ، ومسحه بالتراب إن مسّ البدن يابسين.
    وقال الشيخ عبد النبي العراقي (2) ، في قول المصنّف : ( والكافر بأقسامه نجس ، حتّى المرتدّ بقسميه ، وحتّى اليهود والنصارى والمجوس ) : كافر ونجس يجب الاجتناب عنه كسائر النجاسات ، ويترتّب على غيرها ويدلّ على ما ذكر الإجماع بقسميه ، بل إنّ الهمداني في المصباح قد ادّعى تواتره ، وهو كذلك ، فإنّ المنقول منه متواتر جداً ، كما عن السيّد علم الهدى ( قدس سره ) وابن زهرة وابن إدريس والعلاّمة والمعتبر والبحار والدلائل وشرح الفاضل ونهاية الإحكام ، بل الشيخ في التهذيب ادّعى إجماع المسلمين عليه ، ووجّهه فاضل الهندي بأنّه أراد من العامّة النجاسة الحكميّة وإلاّ أنّهم لا يقولون بنجاسة العينية بعموم فرقهم ، وهو كذلك كما هو المنصوص في الفقه على المذاهب الأربعة ، بل في المدارك أنّ الحكم بالنجاسة شعار الشيعة يعرفه علماء العامّة ، بل وعوامّهم بل ونسائهم وصبيانهم يعرفون ذلك ـ ثمّ يذكر ما قاله ابن أبي عقيل وابن جنيد مع توجيه كلامهما ، ثمّ يقول : ـ لا خير في خلافهم بعد تواتر الإجماعات مطلقاً كما عن الروض والروضة والميسية ومجمع البرهان والذخيرة والصدوق والكليني إلى غير ذلك من أعلام الورى برّد الله مضاجعهم.
    هذه نماذج من عبائر علمائنا العظام الدالّة على الإجماع في نجاسة الكفّار ، فتدبّر.
1 ـ الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 77.
2 ـ المعالم الزلفى في شرح العروة الوثقى 1 : 335 ، طبع علمية ـ قم.


(95)
    اعلم أنّ العمدة في مقام الاستدلال على الأحكام الشرعيّة أوّلا ما جاء في كتاب الله الكريم ، وممّا يدلّ على نجاسة الكفّار قوله سبحانه وتعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه : ( يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شاءَ إنَّ اللهَ عَليمٌ حَكيمٌ ) (1).
    كيفية الاستدلال : قوله ( نجس ) بفتحتين ـ فتحة النون وفتحة الجيم المعجمتين ـ مصدر كالغضب ، ولمّا لا يصح أن يكون المصدر خبراً ، لأنّه مجرّد الحدث من دون اقترانه بأحد الأزمنة الثلاثة ، ولا يحمل ذلك على مبتدأ إلاّ بتأويل أو تقدير ، فوقوع النجس خبراً عن ذي الخبر إمّا بتقدير مضاف : أي ذو نجس ، أو بتأويله بالمشتقّ نظراً إلى أنّه صفة يستوي فيه الواحد وغيره ، فيقال : رجل نجس وقوم نجس ورجلان نجس وامرأة نجس وامرأتان نجس ونساء نجس ، أو أنّه باق على المعنى المصدري من غير إضمار ولا تأويل ، إلاّ أنّ حمله على المبتدأ
1 ـ سورة التوبة : 28.

(96)
يكون من المبالغة ، كما يقال : زيدٌ عدل ، أي كثير العدالة ، وما نحن فيه كأ نّهم تجسّموا من النجاسة ، وقيل : هذا المعنى أولى من غيره ، ويؤيّده أداة الحصر ( إنّما ) فإنّها للمبالغة ، والحصر يفيد القصر ، وهو هنا من القصر الإضافي من قصر الموصوف على الصفة ، كقولهم : إنّما زيدٌ شاعر ، وهو قصر قلب : أي ليس المشركون طاهرين كما يعتقدون ، بل هم نجس ، منحصرون في النجاسة.
    والعجب العجاب من أبي حنيفة إمام المذهب الحنفي ، حيث ذهب إلى أنّ الماء الذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس ، فالمنفصل من أعضائه من ذلك الماء حينئذ نجس ، بخلاف الماء الذي استعمله المشرك ، فإنّه طاهر لعدم إزالة حدثه ، فذهب الفخر الرازي إلى أنّ القصر هنا من قصر الصفة على الموصوف : أي لا نجس من الإنسان غير المشركين ، ثمّ قال : وعكس بعض الناس ذلك وقالوا : لا نجس إلاّ المسلم لأنّ الماء المستعمل في رفع حدثه نجس دون المشرك ، فأراد بهذا التشنيع ، الردّ على أبي حنيفة ، فتدبّر.
    ثمّ ـ كما مرّـ اختلف العلماء والمفسّرون في تفسير كون المشرك نجساً ، فذهب فقهاؤنا الأعلام ـ قدّس الله أرواحهم الزكيّة ـ إلى أنّ المراد به النجاسة الشرعية العينيّة ، بمعنى أنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وربما يقال : هذا هو الظاهر المتبادر لغةً وعرفاً ، والتبادر علامة الحقيقة ، كما أنّ ظواهر الكتاب حجّة ، ويؤيّده قوله تعالى : ( فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ ) ، كما يؤيّده أيضاً ، أنّه غالباً يستعمل كلمة النجس بالكسر مع الرّجس الذي يدلّ على القذارة العينية ، فصار بمنزلة النصّ فيه ، فلا بدّ من الحمل عليه خصوصاً عند عدم دليل على خلافه ، وهو المرويّ عن أهل البيت الذين أدرى بما في البيت ، والذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، وهو مذهب شيعتهم الإمامية ، كما يروى عن الزيديّة


(97)
أيضاً ، كما هو المنقول عن ابن عباس والحسن البصري ـ كما مرّ في بيان أقوال علماء أبناء العامّة ـ وأمّا أئمة المذاهب الأربعة وفقهائهم ، فقد اتّفقوا على طهارة أبدانهم ، وأوّلوا الآية الشريفة بأنّ المراد بنجاستهم : خبث باطنهم وسوء سريرتهم وبطلان اعتقادهم ، أو المراد : نجاسة ظاهرهم بالعرض لا ذاتاً ، نظراً إلى أنّهم لا يراعون الطهارة ، ولا يغتسلون من الجنابة ، ولا يتجنّبون النجاسات ، بل يلابسونها ويباشرونها غالباً كشربهم الخمور وأكلهم لحم الخنزير ، فيكون المعنى أنّهم ذو نجاسة ، وعلى هذا حمل صاحب الكشّاف والبيضاوي هذه الآية ، إلاّ أنّه بعيد جداً ، كما ذهب إليه العلاّمة الجواد الكاظمي (1) ، فقال : إذ المتبادر منها نجاسة ذواتهم وأعيانهم مطلقاً لا ملامستهم النجاسة ، فإنّ ذلك مجاز يحتاج الحمل عليه إلى قرينة وإخراج القرآن عن الظاهر من غير دليل لا وجه له ، فإنّ العمل بظاهر القرآن واجب لا يجوز العدول عنه إلاّ بما هو مثله أو أقوى منه في الدلالة. وظاهر كلامهما ـ الرازي والبيضاوي ـ أنّه لا دليل عليه إلاّ اتّفاق أهل المذاهب الأربعة على خلاف صريح القرآن ، وإن كان ينبغي في الشرع أن يشير إليه ، والعجب أنّ البيضاوي بعد أن حمل الآية على ملابسة النجاسة غالباً ، قال : وفيه دليل على أنّ ما الغالب نجاسته نجس ، وفيه نظر لأ نّا لا نسلّم ذلك ، إذ عدم التطهير وعدم الاجتناب عن النجاسة غالباً لا يستلزم النجاسة حقيقة ، نعم يظنّ كونهم ذوي النجاسة ، والأصل في الأشياء الطهارة ما لم يعلم أنّها نجسة ، وبالجملة اللازم ممّا قاله أنّ إطلاق النجاسة عليهم تجوّزاً ، والعلاقة ملابستهم النجاسة. والظاهر أنّه لا يلزم من تسميتهم بالنجاسة مبالغة وتجوّزاً ، كونهم نجاسة على الحقيقة فضلا عن نجاسة غيرهم
1 ـ مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام 1 : 101 ، طبع مكتبة المرتضوية.

(98)
ممّا الغالب فيه ذلك ، بل لا يلزم صحة إطلاقها عليه مجازاً لعدم اطّراد المجاز. فتأمّل ، مع أنّه يلزم كون المسلم الغالب نجاسة بدنه نجساً ، ويجب اجتنابه ، وليس كذلك إجمالا. انتهى كلامه.
    وقال العلاّمة الحلّي (1) : لنا قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) لا يقال : إنّه مصدر فلا يصحّ وصف الخبر به إلاّ مع حرف التشبيه ولا دلالة فيه حينئذ ، لأ نّا نقول : إنّه يصحّ الوصف بالمصادر إذا كثرت معانيها في الذات ، كما يقال : رجلٌ عدل ، وذلك يؤيّد ما قلناه.
    وجاء في الجواهر (2) ، بعد نقله الإجماعات المنقولة في الباب : ويدلّ عليه ـ على نجاسة الكفّار ـ مضافاً إلى ذلك ـ الإجماع ـ قوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) المتمّم دلالتها ـ حيث تضمّنت لفظ النجس الذي لم يعلم إرادة المعنى الاصطلاحي منه ، أو اختصّت بالمشرك ـ بظهور إرادة الاصطلاحي هنا ولو بالقرائن الكثيرة التي منها تفريع عدم قربهم المساجد الذي لا يتّجه إلاّ عليه ، على أنّ النجاسة اللغوية مع منع تحقّقها في المترفين منهم ليست من الوظائف الربّانيّة ، واحتمال إرادة الخبث الباطني من النجاسة ـ كما اختاره بعض الناس ممّن لا نصيب له في مذاق الفقه تبعاً للعامّة العمياء ـ ضروريّ الفساد ، مع أنّها ليست من المعاني المعهودة المعروفة للفظ النجاسة.
    وبعدم القول بالفصل بين المشرك وغيره منهم ، كالمحكي في الغنية والرياض إن لم نقل بتعارف مطلق الكافر من المشرك ، أو لما يشمل اليهود والنصارى ،
1 ـ المنتهى 1 : 168 ، الطبعة الحجرية.
2 ـ الجواهر 6 : 42.


(99)
لقوله تعالى : ( وَقالَتِ اليَهودُ عُزَيْرٌ ) إلى قوله تعالى ( عَمَّا يُشْرِكونَ ) (1) ، ولما يشعر به قوله تعالى لعيسى : ( أأنْتَ قُلْتَ لِلْناسِ اتَّخِذوني وَاُمِّي إلـهَيْنِ ) (2) من شركهم أيضاً ، ولقولهم أيضاً : ( إنَّهُ ثالِثُ ثَلاثَة ) (3) المشعر بكونه عند اليهود ثاني اثنين وغير ذلك ـ وبهذه الوجوه يذهب صاحب الجواهر إلى إلحاق أهل الكتاب اليهود والنصارى بالمشركين ـ وكذلك المجوس ، لما قيل إنّهم يقولون بإلهيّة يزدان والنور والظلمة ، كتتمّة ما دلّ على نجاسة المجوس به أيضاً من صحيح علي بن جعفر (4) ، ومحمّد بن مسلم (5) ، وموثّق سعيد الأعرج (6) ، وغيرها (7) ، وما دلّ على نجاسة خصوص اليهود والنصارى أيضاً من المعتبرة (8) ، وهي وإن كان في مقابلها أخبار دالّة على الطهارة ، وفيها الصحيح وغيره ، بل هي أوضح من تلك في الدلالة ، بل لولا معلومية الحكم بين الإمامية وظهور بعضها في التقيّة ، لاتّجه العمل بها ، لكن لا ينبغي أن يصغى إليها في مقابلة ما تقدّم ، وإن أطنب بعض الأصحاب في البحـث عنها وتجشّم محامل لها يرّجح الطرح عليها فضلا عن التقيّة. انتهى كلامه.
1 ـ التوبة : 30.
2 ـ المائدة : 116.
3 ـ المائدة : 77.
4 ـ الوسائل ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 1 ـ 6.
5 ـ الوسائل ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 1 ـ 6.
6 ـ الوسائل ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 8.
7 ـ الباب 14 من أبواب النجاسات.
8 ـ الباب 14 من أبواب النجاسات.


(100)
    وقال السيّد على الطباطبائي (1) : والحكم على نجاسة الكافر بعد الإجماعات المستفيضة ... الآية الكريمة ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، المتمّم دلالتها حيث اختصّت بالمشرك وتضمنّت لفظ النجس الغير المعلوم إرادة المعنى الاصطلاحي منه ، بعدم القائل بالتخصيص ، وظهور المعنى المصطلح هنا بقرينة ( فَلا يَقْرَبوا المَسْجِدَ الحَرامَ ).
    وقال الشيخ عبد النبي العراقي (2) : كما يدلّ على نجاسة الكافر الآية الكريمة : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ; بناءً على أنّ المشرك اسم واصطلاح لجميع فرق الكفر ، فغير المسلم مشرك ، فيشمل عابد الصنم واليهود والمجوس والزنديق إلى غير ذلك من أصنافهم ، أو عدم القول بالفصل إذا قلنا باختصاصه بالمشرك بالمعنى الأخصّ كما لا يخفى ، خصوصاً أنّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس من أظهر أفراد المشرك ، حيث إنّ المجوس ذهب إلى المبدأين من النور والظلمة ، واليهود زعموا أنّ عزير ابن الله ، والنصارى زعموا أنّ المسيح ابن الله ، كما نصّ به القرآن إلى قوله عزّ اسمه : ( تَعالى عَمَّا يُشْرِكونَ ). وكيف كان ، لا إشكال في دلالة الآية لكلّ كافر.
    أقول : وجوابه يتّضح من خلال طيّات هذه الرسالة ، لا سيّما ما يقوله السيّد الخوئي في التنقيح ، فلا نكرّر روماً للاختصار.
1 ـ رياض المسائل 1 : 85.
2 ـ المعالم الزلفى 1 : 336.


(101)
    لقد حاول بعض أن يناقش الاستدلال بالآية الشريفة الدالّة على نجاسة الكفّار ، وأورد إشكالات أجاب عنها علماؤنا الأعلام بأجوبة شافية وكافية ، ولكي يتمّ الاستدلال وتعمّ الفائدة ، نذكر الإشكالات ونسلّط الأضواء عليها ، متمسّكين بعروة الخلاصة روماً للاختصار ، ولوضوح الاستدلال ، وإليك أهمّ الإيرادات :
    الأوّل : أنّ النجس في الآية ـ بفتح النون وفتح الجيم المعجمتين ـ إنّما هو مصدر ، ولا يصحّ حمله على العين إلاّ بتقدير ( ذو ) ، ويكفي في الإضافة التي تحكيها ( ذو ) أدنى ملابسة ، ولو كان ذلك من جهة النجاسة العرضية الحاصلة للكفّار من حيث مباشرتهم للأعيان النجسة ـ كما عند فقهاء أبناء العامّة كما مرّ ، من شربهم الخمر وأكلهم لحم الخنزير ـ فلا تدلّ على النجاسة الذاتية والعينيّة.


(102)
    واُجيب عنه :
    أوّلا ـ
كما في المعتبر وغيره : أنّه يصحّ حمل المصدر على العين وأن يكون خبراً عن مبتدأ ، وذلك للمبالغة ، كما يقال : ( زيد عدل ) أي كثير العدالة وأنّه أصبح مجسّم العدالة ، وكذلك في ما نحن فيه ، كأ نّهم تجسّموا في النجاسة ، وهذا المعنى وإن كان مجازاً ـ فإنّه من استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة مع القرينة ـ لكنّه أقرب من التقدير ، فيقدّم عليه.
    ثانياً ـ أنّ المحكي عن جماعة من أهل اللغة ـ كما صرّح به في القاموس ـ أنّ النجَس ـ بالفتح ـ وصف كالنجِس ـ بالكسر ـ وهو ضدّ الطاهر ، فيصحّ حمله حينئذ على العين على الحقيقة ، بدون شائبة التجوّز.
    ثالثاً ـ لو سلّم أنّ المراد ( ذو نجاسة ) ، إلاّ أنّه أمكن الاستدلال بإطلاقه على النجاسة الذاتية العينيّة أيضاً ، فإنّ النجاسة العرضية إنّما تكون بملاقاة الأعيان النجسة مع عدم استعمال المطهّر ، فإطلاق كونهم ذا نجاسة مطلقاً ، حتّى مع عدم ملاقاة الأعيان النجسة ومع عدم استعمال المطهّر إنّما يدلّ على كون نجاستهم ذاتية ، وذلك بالدلالة الالتزامية ، كما هو واضح.
    وبعبارة اُخرى : لمّا كان لا يصحّ حمل المصدر على الذات ، فلا بدّ من تقدير ، كقولهم ذو نجاسة ، ويكون حينئذ أعمّ من النجاسة العرضية والذاتية ، والثاني كالكلب ، والأوّل باعتبار عدم احترازهم عن النجاسات ، فلا تدلّ الآية على النجاسة الذاتية والمعنى المصطلح الشرعي.
    فجوابه : لو كان المراد النجاسة العرضية لقيّدت بأنّهم ما دام لم يقع عليهم الطهارة فلا يقربوا المسجد الحرام ، والحال إطلاق الآية ينفي ذلك ، فتدبّر.
    وأجاب المحقّق البحراني عن الإشكال هذا بقوله : إنّه لا ريب في صحّة


(103)
الوصف بالمصدر ، إلاّ أنّه مبني على التأويل ، فمنهم من يقدّر كلمة ( ذو ) ويجعل الوصف بها مضافاً إلى المصدر ، فحذف المضاف واُقيم المضاف إليه مقامه ، وعلى هذا بني الإيراد المذكور ، ومنهم من جعله وارداً على جهة المبالغة باعتبار تكثّر الغلّ من الموصوف حتّى كأنّه تجسّم منه ، وهذا هو الأرجح عند المحقّقين من حيث كونه أبلغ ، وعليه حمل قول الخنساء ( فإنّما هي إقبال وإدبار ) كما ذكره محقّقو علماء المعاني والبيان ، وعليه بني الاستدلال بالآية المذكورة.
    وقال الشيخ عبد النبي العراقي (1) في تقرير الإشكال وجوابه : وأمّا توّهم عدم دلالته أصلا حيث إنّ النجس مصدر ، فلا يصحّ حمله على اسم الذات إلاّ بالتقدير فيقال ذو نجس ، وعليه يمكن أن يكون نجاسة المشركين نجاسة عرضية التي لا يكاد انفكاكهم عنها لعدم اجتنابهم عن القاذروات ولا يغتسلون عن الجنابات ، كما لا يخفى ، لكنّه كما ترى بأنّه أتى به مبالغة إيماء بأنّهم عين النجاسة كسائر القاذورات ، وهذا أبلغ من تقدير ( ذو ) حيث يلزم الإضمار دون المبالغة ، فإنّها لمقتضى المقام ، فلا محذور أبداً.
1 ـ المعالم الزلفى 1 : 336.

(104)
    الثاني : لقد مرّ علينا في الفصل الأوّل أنّ علماء أبناء العامّة وأئمة المذاهب الأربعة قالوا بطهارة المشركين ، على أنّ المراد من الآية الشريفة هي النجاسة والقذارة الباطنيّة لا العينّية والجسديّة ، وهذا فاسد بالضرورة ، كما أنّ الخبث الباطني من النجاسة ، ليس من المعاني المعهودة والمعروفة عند نزول الآية للفظ النجاسة ، فإنّها من المعاني التحمليّة من قبل المتأخّرين منهم على القرآن الكريم ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وقد رأينا كيف أنّ ابن الحزم منهم ينكر عليهم ، وكذلك فخرهم الرازي ، وغيرهما.
    كما استدلوا على طهارتهم بالآية الشريفة : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (1) ، إلاّ أنّه لا ينبغي الإصغاء إليه ; وذلك لوجوه :
    أوّلا : إذا أطلق أهل الحجاز ـ كما عن المصباح المنير ـ الطعام عنوا به البُرّ خاصّة ، وما عن المغرب : ( أنّ الطعام اسمٌ لما يؤكل ، وقد غلب على البُرّ ) ، بل عن ابن الأثير عن الخليل ( أنّ الغالب في كلام العرب أنّه البُرّ خاصّة ) ـ أي الحنطة ـ إلى غير ذلك ممّا حكي عنهم بما يقتضي اختصاصه بالبُرّ.
    وثانياً : لقد ورد في الأخبار المعتبرة (2) ، وفيها الصحيح والموثّق وغيرهما ،
1 ـ المائدة : 5.
2 ـ الوسائل ، الباب 26 من أبواب الذبائح ، الحديث 1 و 6 ، والباب 27 ، الحديث 46 ، من كتاب الصيد والذبائح.


(105)
بإرادة العدس والحبوب والبقول من الطعام. وعن أبي علي الأشعري ، عن محمّد ابن عبد الجبار ، عن محمّد بن إسماعيل ... عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، في حديث أنّه سئل عن قوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ ... ) ، قال : كان أبي يقول : إنّما هي الحبوب وأشباهها (1). وشيخ الطائفة بمسنده مثله.
    وثالثاً : وقد يشهد للمعنى الأوّل حديث أبي سعيد (2) : « كنّا نخرج الصدقة الفطرة على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير ».
    لكنّ ـ صاحب الجواهر ـ قال : قد ينافي ذلك إضافة الطعام إلى الذين اُوتوا الكتاب ، فمن هنا كان حمل الطعام في الآية الكريمة على مضمون الأخبار السابقة متّجهاً ، بل لا يبعد إرادة طعامهم المنزل عليهم ، كالمنّ والسّلوى ، والذي دعا الله لهم موسى بأن تنبته الأرض لهم من العدس والفوم ونحوهما. وكيف كان فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعدّها له الملك العلاّم ، انتهى كلامه.
    وقال السيّد الحكيم (3) : وأمّا آية حلّ طعام أهل الكتاب ، فلا مجال للاستدلال بها على الطهارة ، بعد ورود النصوص الصحيحة المفسّرة له بالحبوب ، مع أنّ ظهورها في الطهارة غير ظاهر ، لأنّ الظاهر من الحِلّ فيها الحِلّ التكليفي ، بقرينة السياق ، مع قوله تعالى : ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (4) ، وهذا الحلّ كما لا يعارض ما دلّ على حرمة المغصوب ، لا يعارض ما دلّ على حرمة النجس. والظاهر
1 ـ الوسائل ، 16 : 381 ، الباب 51 ، الحديث 4.
2 ـ تيسير الوصول 2 : 130.
3 ـ المستمسك 1 : 375.
4 ـ المائدة : 5.
زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: فهرس