زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: 121 ـ 135
(121)
منفردين فليس بذلك بأس ، ولكن مع تقدّم مباشرة النصراني للحوض يغسل المسلم الحوض من أثر تلك المباشرة ثمّ يغتسل منه ، وبهذا يظهر أنّ الحكم مفروض في حوض لا يبلغ حدّ الكرّ ، وتكون المادّة فيه منقطعة حال مباشرة النصراني له ، ويكون للمسلم سبيل إلى إجرائها ليتصوّر إمكان غسل الحوض كما لا يخفى ، ولأ نّه مع كثرة الماء واتصالّ المادّة به لا وجه للحكم بالتنجيس ... ثمّ قال : هذا ما حضرني من الأخبار الدالّة على القول بالنجاسة ، وربما وقف المتتبّع على ما يزيد على ذلك أيضاً. انتهى كلامه.
    وقال العلاّمة الحلي (1) ، بعد الاستدلال على نجاسة الكفّار بالإجماع والقرآن الكريم : وما رواه الجمهور عن أبي تغلبة « قال : قلت : يا رسول الله ، إنّا بأرض أهل الكتاب ، أفنأكل في إنائهم ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها » ، متّفق عليه. وما رواه عنه ( صلى الله عليه وآله ) قال : « المؤمن ليس بنجس » ، وتعليق الحكم على الوصف يدلّ على سلبه عمّا عداه ـ أي تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعليّة بناءً على ثبوت مفهوم الوصف ، وعند نفي العلّة يلزم ينفي المعلوم ، فتأمل ـ.
    ومن طريق الخاصة ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى ( عليه السلام ) ، قال : سألته عن فراش اليهودي ـ إلى آخره ـ وسألته عن رجل اشتري ثوباً ـ إلى آخره ـ. وفي الصحيح عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما ( عليهما السلام ) ، قال : سألته عن رجل صافح مجوسيّاً ـ إلى آخره ـ. وما رواه عن أبي بصير ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، أنّه قال في مصافحة المسلم لليهودي ـ إلى آخره ـ ثمّ قال
1 ـ منتهى المطلب 1 : 168 ، الطبعة الحجرية.

(122)
المصنّف : وإنّ اسآرهم نجسة. ولا موجب إلاّ نجاستهم ولأنّهم لا ينفكّون عن النجاسات ، فكان الكفر مظنّة النجاسة ، فتعلّق تحريم الملاقاة بهم ، ولأنّ فيهم إذلالا لهم فكان الحكم بنجاستهم مناسباً ، فيكون علّة ; إذ المناسبة والإقران يوجبان التعليل ـ ويبدو لي أنّ ذلك من الحكمة وليست العلّة التي يدور وجود المعلول مدارها ، فتدبّر ـ.
    10 ـ ومن الروايات ما نقله ابن إدريس في كتاب السرائر عن جامع البزنطي ، قال : وسألته عن الرجل يشتري ثوباً من السوق لا يدري لمن كان ، يصلح له الصلاة فيه ؟ فقال : إن كان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يلبسه ولا يصلّي فيه حتّى يغسل (1).
    11 ـ وما رواه الكليني في باب اللباس الذي يكره وما لا يكره ، في الموثّق عن أبي بصير ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال : قلت : الطيلسان يعمله المجوس اُصلّي فيه ؟ قال : أليس يغسل بالماء ؟ قلت : بلى ، قال : لا بأس. قلت : الثوب الجديد يعمله الحائك اُصلّي فيه ؟ قال : نعم (2).
    12 ـ وروى الشيخ في باب الأحداث من الزيادات ، عن عيسى بن عمر مولى الأنصار في الضعيف ، أنّه سئل أبو عبد الله ( عليه السلام ) عن الرجل ، أيحلّ له أن يصافح المجوس ؟ فقال : لا. فسأله : أيتوضّأ إذا صافحهم ؟ قال : نعم ، إنّ مصافحتهم ينقض الوضوء (3).
1 ـ ذخيرة المعاد : 151.
2 ـ ذخيرة المعاد : 151.
3 ـ ذخيرة المعاد : 151.


(123)
    قال صاحب ذخيرة المعاد (1) ، بعد ذكر الروايات : هذا غاية ما يمكن أن يحتجّ به للنجاسة ، وفيه نظر ... ـ ذكرنا ذلك في الفصل الثامن في طهارة الكتابي ، فراجع ـ.
    والسيّد الحكيم في المستمسك يذكر بعض الروايات كما مرّت ، ثمّ يقول : وهي وإن كانت واردة في المجوسي واليهودي والنصراني ، لكن يمكن إثبات الحكم في غيرهم بعدم القول بالفصل ، أو بالأولوية ، وإن كانت قد تشكل في المحكوم بكفره من فرق المسلمين.
    13 ـ ورواية القلانسي :
    الكافي ، الاُصول ، عنه ، عن الحسن بن علي الكوفي ، عن عباس بن عامر ، عن علي بن معمر ، عن خالد ( خلاد ) القلانسي ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ألقى الذمّي فيصافحني ؟ قال : امسحها بالتراب أو بالحائط. قلت : فالناصب ؟ قال : اغسلها (2).
    14 ـ فقيه : روى زرارة ، عن الصادق ( عليه السلام ) ، أنّه قال في آنية المجوس : إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء.
    15 ـ المحاسن : أحمد بن محمّد بن خالد ، عن محمّد بن عيسى اليقطيني ، عن صفوان بن يحيى ، عن موسى بن بكر ، عن زرارة ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، مثله (3).
    16 ـ وقال مؤلّف كتاب جامع أحاديث الشيعة : وفي جميع أحاديث
1 ـ ذخيرة المعاد : 151.
2 ـ جامع أحاديث الشيعة 2 : 113.
3 ـ جامع أحاديث الشيعة 2 : 113.


(124)
باب (1) نجاسة سؤر الكفّار من أبواب الأسآر ما يدلّ على نجاسة الكفّار ، وفي رواية يونس (5) من باب (9) طهارة ما لا تحلّه الحياة من أبواب النجاسات ، قوله ( عليه السلام ) : إنّما يكره أن يؤكل سوى الأنفحة ممّا في آنية المجوس وأهل الكتاب ; لأنّهم لا يتوقّون الميتة والخمر.
    17 ـ وفي رواية عمار (9) من باب (18) حكم تغسيل الرجل المرأة وبالعكس ، من أبواب غسل الميت ، قوله ( عليه السلام ) : يغتسل النصراني ثمّ يغسله ( أي المسلم ) فقد اضطر ـ إلى أن قال ( عليه السلام ) : ـ تغتسل النصرانية ثمّ تغسلها ( أي المسلمة ).
    18 ـ وفي أخبار باب مؤاكلة الكفّار من أبواب الأطعمة المحرّمة ما يدلّ على نجاسة الكفّار ، وفي بعضها ما يدلّ على طهارته ، فلاحظ. وفي كثير من أخبار باب حكم ذبائح أهل الكتاب الدالّة على جواز أكل طعامهم ما يمكن أن يستدلّ به على طهارتهم. وفي مرسلة علي بن الحكم ورواية حمزة بن أحمد من باب دخول الحمّام بمئزر ما يناسب الباب. انتهى كلامه.
    وهناك روايات اُخرى في أبواب ومسائل متعدّدة تدلّ بظاهرها على نجاسة الكفّار.


(125)
    الفقه في مصطلح الفقهاء كما جاء تعريفه في كتاب « معالم الدين » للشيخ حسن بن الشهيد الثاني ( قدس سرهما ) ، هو عبارة عن : العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة. وقالوا : المراد من الأدلّة التفصيليّة ، هي عبارة عن : الأدلّة الأربعة التي تعدّ عند بعض موضوع علم اُصول الفقه (1) ، وهي : الكتاب الكريم والسنّة الشريفة والإجماع والعقل.
    ووجوه الاستدلال على نجاسة الكفّار في مصنّفات أصحابنا الأخيار ـ كما مرّ ـ كان عبارة عن الإجماع والكتاب والسنّة الشريفة ، ولم أجد من كتب فقهائنا الأعلام من يقيم الدليل العقلي على نجاستهم ، باعتبار أنّ المسألة والنجاسة إنّما هي شرعيّة وبجعل شرعي ، وأنّها مسألة تعبّدية ، ولا مجال لحكم العقل فيها ، فليست من المستقلاّت العقليّة ، ولا من اللوازم العقلية ، حتّى يقام عليها الدليل العقلي.
1 ـ لقد ذكرنا تفصيل ذلك ومناقشته في رسالة « ملامح عن أوّليات علم اُصول الفقه » ، لا زال مخطوطاً.

(126)
    ولكن ربما يصحّ أن نقيم الدليل العقلي على ذلك ، باعتبار أنّه يصدق عليه عنوان الظلم الذي هو قبيح عقلا ـ وكلّما حكم به العقل حكم به الشرع ـ وإنّما يكون من الظلم من حيث أنّه لو قيل بطهارة المشركين والكفّار بصورة عامّة ، فإنّه يلزم التساوي بين الشريف والوضيع ، وبين النور والظلمة ، والخير والشرّ ، والصالح والطالح ، والقذر والطاهر. ومثل هذا التساوي يعدّ ظلماً ، فإنّ من العدل وضع الشيء في موضعه ، وإعطاء كلّ شيء وكلّ واحد حقّه ، فليس المساواة في كلّ شيء من العدالة ، بل من العدل أن تضع الأشياء في مواضعها ، فليس من العدل المساواة في توزيع أقراص الخبز على الطفل الصغير والرجل الكامل بالمساواة ، بل يعطى الطفل بمقدار بطنه ، وكذلك الرجل ، فكيف يساوى بين الكافر والمسلم في الطهارة.
    ثمّ ينبغي احترام المؤمن ، كما نصّت الأخبار عليه ، فإنّه يحرم هتك المؤمن حيّاً وميّتاً ، ومن مقدّمات احترامه ولوازمه ، أن لا يساوى بينه وبين الكافر في الطهارة ، ومقدّمة الواجب واجب.
    لكنّ هذه الوجوه وأمثالها قابلة للنقاش ; فإنّه لا يساوى بين العالم والجاهل ، ولكن لا يحكم بنجاسة الجاهل ، وربما لا يستدلّ على النجاسة بالعقل ، لأنّها من الأحكام الجعليّة الشرعية والتعبديّة ، فهي خارجة عن حكومة العقل ، فإنّ العقل في مقابل الشرع والوحي المنزل ، ربما يدرك ما يقوله ، لأنّه من الحجج الإلهية ، وإنّه الحجّة الباطنة في عرض الحجّة الظاهرة وهو النبيّ ، فلا تعارض بين الحجّتين ، إلاّ أنّ الوحي أكبر من العقل ، فالعقل لا يمكنه أن يحيطه ويدرك ما فيه ، بل ربما يدرك فيحكم بما حكم الشرع ، وربما لا يدرك فيسكت ، لا أنّه لا يخالف الشرع ولا ينفيه ، فالعقل لا يدرك مثل النجاسة والطهارة حتّى يكشف ملاكاتهما وعللهما فيحكم فيهما. فتأمّل.


(127)
    زبدة الكلام : من الأعيان النجسة : الكافر ، والمتيقّن منه المشركون العرب في الجاهلية ، وهم لا ينكرون الله سبحانه ، إنّما يتقرّبون إليه زلفى بعبادتهم الأصنام ، فكانوا يعبدون أصنامهم ، وعليه بطريق أولى ـ أي بالأولوية ـ يحكم بنجاسة من ينكر الله سبحانه وتعالى ، فأجمع علمائنا الأخيار بنجاستهم ، وكذلك الناصبي الذي نصب عداوة آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في قلبه ، كما جاء ذلك في موثقة عبد الله بن يعفور :
    الكافي بسنده ، عن الصادق ( عليه السلام ) ، قال : « لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما ، إنّ الله لم يخلق خلقاً شرّاً من الكلب ، وإنّ الناصب أهون على الله تعالى من الكلب » (1).
    والكلب من الأعيان النجسة ، متّفق عليه عند جميع المسلمين وأصحاب القبلة ، والناصب لعداوة أهل البيت ( عليهم السلام ) أنجس منه.
    وهناك روايات عديدة تدلّ على كفره وأنّه مهدور الدم ، منها رواية حفص
1 ـ الوسائل 6 : 340 ، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث 6.

(128)
ابن البختري محمّد بن الحسن شيخ الطائفة ، بإسناده عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن ابن محبوب ( الحسين بن سعيد ) ، عن ابن أبي عمير ، عن حفص بن البختري ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : خذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا الخمس (1).
    وحفص من الثقات ، وإن كان البعض يناقش في عدالته بأنّه كان يترك الواجب أو يلعب الشطرنج ، إلاّ أنّه في النقل ثقة.
    وأمّا أهل الكتاب ، أي اليهود والنصارى الذين عندهم التوراة والإنجيل فعلا وإن كان محرّفاً ، إلاّ أنّه عند صدور الروايات كانوا يعتقدون بهما.
    أمّا المجوس ، فلم يثبت أنّ لهم كتاباً ، لكن حكم عليهم بحكم أهل الكتاب في غير موضع من الفقه الإسلامي.
    وقيل : من المتسالم عليه نجاسة أهل الكتاب كذلك كالمشركين ، إلاّ أنّ ابن أبي الحديد ذهب إلى طهارتهم ، كما أنّه عند متأخّري المتأخّرين كالسيّد الحكيم والسيّد الخوئي وبعض المعاصرين من الفقهاء الأعلام من يذهب إلى طهارتهم.
    واستدل على نجاسة المشركين ـ بعد نقل الإجماعات ـ بالآية الشريفة : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، والمتيقّن من المشرك من يعبد غير الله ويعبد الصنم ، إلاّ أنّه ـ كما قيل ـ يشمل اليهود والنصارى ، فإنّه بعد آيات يحكي القرآن الكريم عن اليهود بأنّهم يقولون ( العزير بن الله ) فهم من المشركين ، فما دام العنوان ينطبق على أهل الكتاب فإنّه يحكم بنجاستهم الشرعية الذاتيّة ، إلاّ أنّه يرد عليهم أنّه وإن كان اليهود والنصارى وحتّى المجوس في الحقيقة والواقع من المشركين إلاّ أنّهم في لسان الآيات الكريمة والروايات الشريفة يقابلون المشركين ،
1 ـ بحار الأنوار 100 : 56 ، طبع طهران.

(129)
فالكافر قسيم المشرك ، لا أنّه أحدهما يدخل في الآخر. كما أنّه يلزم أن يدخل المرائي ـ أي من يعمل رياءً ـ في عنوان المشرك لتصريح الروايات بذلك ، والحال لم يقل أحد بذلك ، وإن ذكرنا تفصيل ذلك على أنّ الشرك تارةً في العقيدة واُخرى في العمل ، والرياء إنّما هو شرك في العمل ، والذي يوجب الكفر إنّما هو شرك العقيدة.
    كما أنّ إطلاق الشرك على أهل الكتاب ليس على وجه الحقيقة ، بل على نحو المجاز والعناية باعتبار بعض اللحاظات ، كإطلاقه على من أطاع الشيطان (1) ، أو رجلا في معصية الله كما جاء ذلك في القرآن الكريم ، فالنصارى واليهود إنّما بحكم المشركين لاتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله سبحانه ، والمراد بذلك أنّهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، كما جاء ذلك في الأخبار الشريفة ، كما قول النصارى : المسيح اتّحد مع الله ، إنّما هو قول اليعقوبية ، لا كلّهم ، فلا يمكن إثبات الشرك لهم جميعاً. أو يقال : إنّ المسيح مرتبة ظهور ذات الله الواحد وهو الأب. واليهود وإن لزم قولهم العزير ابن الله الكفر ، ولكن لا يلزمهم الشرك ، فإنّه ربما كان مقصودهم : أنّ العزير مظهر قدرة الله ، لأنّه وجد التوراة بعد ضياعه ، كما في خبر ابن عبّاس ، كما إنّ من النصارى واليهود من يتلو آيات الله آناء الليل ، ويسجد ويؤمن بالله واليوم الآخر ، ويسارع في الخيرات وإنّه من الصالحين (2) ، فكيف يكون مشركاً نجساً ذاتاً. كما عطف أهل الكتاب على المشركين في كتاب الله ، وهذا يعني أنّه قسيمه كما مرّ.
    وهناك مؤيّدات اُخرى تدلّ بوضوح على أنّ إطلاق الشرك على أهل
1 ـ الأنعام : 121 ، ويوسف : 106.
2 ـ آل عمران : 111 ـ 112.


(130)
الكتاب لبعض الجهات والاعتبارات لا على وجه الحقيقة ، كما يطلق الشرك على المرائي وعلى أدنى مراتب لغير الله.
    هذا وليعلم أنّ ما ذكر من عدم دلالة الآية الشريفة على نجاسة أهل الكتاب لا ينافي كفرهم ، لدلالة الآيات والأخبار والإجماع ، بل ضرورة الدين والمذهب على ذلك ، بل لا يخصّ الكفر إيّاهم ، إنّما يطلق على المنتحل للإسلام أيضاً ، كالخوارج والنواصب ، بل وغيرهم ، وأن يحكم بطهارتهم ، فلا ملازمة بين النجاسة والكفر.
    فالآية لا تدلّ على نجاسة أهل الكتاب ، وغاية ما يستفاد منها نجاسة المشركين بأصنافهم الثلاثة ـ من الشرك في أصل العبادة ، وفي الخلق ، وفي الاُلوهية ـ ويستفاد نجاسة الملحدين ومنكري أصل وجوده تعالى بالأولوية (1) ، فتدبّر.
    وما دلّ على نكاح الكتابية كما في ( وَالمـُحْصَنات مِنَ المُؤْمِنات وَالمـُحْصَنات مِنَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (2) ، وهي غير منسوخة بآية ( لا تُمْسِكوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ ) (3) ، ولا بآية ( وَلا تنكحوا المـُشْرِكاتِ ) (4) ، كما هو ثابت في محلّه ، والروايات في ذلك مختلفة (5).
1 ـ ثمّ ذكرنا الروايات الدالّة بظاهرها على نجاسة أهل الكتاب ، إلاّ أنّه ذكرنا مناقشتها وعدم دلالتها على ذلك ، ومعارضتها بما هو أوضح دلالة ، وإنّ طهارة أهل الكتاب كان عند الرواة مفروغاً عنه ، إنّما السؤال في طهارتهم العرضية من جهة ملاقاتهم وعدم اجتنابهم الخمر ولحم الخنزير وما شابه ، ولولا ذلك لكان السؤال لغواً من قبل الرواة.
2 ـ سورة المائدة ، الآية 5.
3 ـ الممتحنة : 10.
4 ـ البقرة : 221.
5 ـ راجع : الوسائل ، الجزء 1 ، باب ما يحرم بالكفر ونحوه. وكذلك المجلّد الثالث والسابع. وراجع تفسير الميزان 2 : 203.


(131)
    كما هناك روايات تدلّ على الجواز ، كما في صحيحتي معاوية بن وهب ومحمّد بن مسلم (1) ، وخبر سماعة بن مهران وأبي بصير وخبر زرارة : « لا بأس أن يتزوّج اليهودية والنصرانية متعة وعنده امرأته ».
    واختلاف الأخبار كان السبب في اختلاف الفتاوى ، فمنهم من منع مطلقاً ، ومنهم من أجاز ، ومنهم من قال بالتفصيل بين المنقطع والدائم وملك اليمين ، وبين الاضطرار والاختيار.
    والخلاصة : إنّه لو كانت الكتابية نجسة ذاتاً ، لكان من الحري بيان ذلك في الأخبار والتنبيه عليه ، والحال لم يكن إلى ذلك ولو إشارة ، بل اُشير إلى نجاستهم العرضية ، كما في صحيح معاوية : « إن فعل فليمنعها من شرب الخمر ولحم الخنزير ».
    وممّا يؤيّد طهارة الكتابي : جواز اتّخاذ الكتابية ظئراً ، كما في خبر سعيد ابن يسار ، وغيره (2). فلو كانت المرضعة نجسة ذاتاً لتنجّس الرضيع ، فلم يكن في الأخبار إشارة إلى نجاستهم الذاتية ، بل فيها نهي عن شربهم الخمر وأكل لحم الخنزير ، وهذا يدلّ على النجاسة العرضية ، كما ذكرنا.
    وما يؤيّد ما دلّ على جواز اشتراط ضيافة مارّة العساكر ـ بل المسلمين مطلقاً ـ على الكتابيين ، كما عليه الأخبار والفتاوى ، بل في التذكرة الإجماع عليه ، كما في خبر قرب الإسناد (3) ، كما جاء في المبسوط (4) ، والمحقّق في الشرائع والشهيد
1 ـ الوسائل ، الجزء 1 ، باب من أبواب من ما يحرم بالكفر ونحوه. والجزء 5 ، باب 7 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه.
2 ـ الوسائل ، الجزء 15 ، الباب 76 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 1 ـ 4.
3 ـ قرب الإسناد : 39 و 62.
4 ـ المبسوط 2 : 38.


(132)
في المسالك وغيرهم ، كما إنّ مخالطة المسلمين معهم يدلّ على طهارتهم ، وجواز الصلاة في الكنائس والبيع وبيت المجوس مع رش الماء واتّخاذها مسجداً.
    وخلاصة الكلام : إنّ ما يستدلّ على طهارة أهل الكتاب تامّ في نفسه ، كما إنّ ما يستدلّ به على نجاسته غير تامّ وإن قيل بظهورها ـ لو خلّيت ونفسها ـ على النجاسة إلاّ أنّ الطائفة الاُخرى من الروايات فيها صراحة على الطهارة ، فيقدم عليها ، ويحمل ما على النجاسة على الكراهة ، ومع الجمع الدلالي بينهما لا تصل النوبة إلى الترجيح بالمرجّحات الداخلية أو الخارجية. وإن أبيت إلاّ المعارضة ، فما دلّ على ترجيح أخبار النجاسة غير تامّ ، من قولهم موافقتها لظاهر الآية ، فتوافق ما في الكتاب الكريم ، ولكن ذكرنا عدم شمولها لأهل الكتاب. وقولهم مخالفتها لرأي العامّة ، لاتّفاقهم على الطهارة ، ولكن لم يثبت الاتّفاق كما مرّ بما لم يثبت تفرّد الإمامية بالقول بنجاستهم ، وقولهم إنّ الطهارة جارية مجرى التقيّة ، ولكن لم يثبت ذلك ، كما يبعد صدور الثانية على كثرتها للتقيّة ، وقولهم إنّ الدالّة على الطهارة أعرض عنها الأصحاب ، ولكن لم يثبت ذلك ، كما إنّه لم يكن إعراض أصحاب الأئمة ، بل كان الحكم بالطهارة مفروغاً عنه عندهم ، وأمّا ما قيل من نقل الإجماعات فهو من المدركي الذي ليس بحجّة ، فإنّه من مظنون المدرك لو لم يكن مقطوعاً وارتكاز النجاسة عند العوامّ إنّما كان في زمن الغيبة الكبرى من جرّاء فتوى الفقهاء ، ومثل هذا الارتكاز لا ينفع ، فالمرجّحات المدّعاة غير تامّة ، وإن أبيت إلاّ التعارض فيقال مع التكافي بالتساقط والقول بالتخيير كما عند المشهور أو الرجوع إلى الأصل ، والأصل هو الطهارة ، فتمّ المطلوب ، وهو الحكم بطهارة أهل الكتاب.
    وإنّما حدثت شهرة القول بالنجاسة في الأزمنة المتأخّرة عن


(133)
المعصومين ( عليهم السلام ) ، حتّى شاع بين الناس من خلال اتّباعهم فتوى العلماء الأعلام والفقهاء الكرام.
    وبعد تمامية الدليل على الحكم بطهارة الكتابي ، فلا مجال للأصل ، ولكن لا بأس بالإشارة إليه لو لم تتمّ الأدلّة ، فمقتضى الأصل الطهارة في كلّ ما يشكّ في طهارته ، كما يستدلّ على طهارة الكتابي من جهات اُخرى ، كجواز تغسيل الكتابي والكتابية للميّت المسلم أو المسلمة عند فقد المماثل والمحرم ، كما في موثقة عمّار الساباطي (1) ، وفي خبر عمر بن خالد ، كما أفتى به المفيد في المقنعة ، وجاء في التهذيب والوسيلة والمنتهى والقواعد والإرشاد واللمعة والبيان وروض الجنان والذخيرة والحدائق والمبسوط والنهاية والمراسم والصدوقين وابن الجنيد والصهرشتي وابن سعيد وصاحب الجواهر.
    ثمّ انّما يدخل أهل الكتاب في إطلاق الآية وعمومها ، لو لم يكن لنا دليل خاصّ لإخراجهم ، وقد ثبت عند بعض خروجهم من إطلاق الآية بدليل خاصّ ، وهو عبارة عن الروايات الشريفة الواردة في المقام.
    ثمّ ، ربما يقال حينئذ : لا قيمة للإجماع والتسالم الأوّل على نجاسة المشركين لعدم تمامية الاستدلال بالآية الشريفة ، إلاّ أنّ جوابه : إنّ الكلّ يقولون بنجاستهم حتّى من لم يستدلّ بالآية ، كما أنّ الناصبي لا إشكال في نجاسته ، وبالأولوية من يظهر العداوة مع الله سبحانه بإنكاره أو عبادة الأصنام ، فإنّه يحكم بنجاسته.
    فلنا دليل على نجاسة المشرك حتّى مع الإغماض عن الإجماعات المنقولة أو الشهرة الفتوائية ، فتدبّر.
1 ـ الوسائل ، الجزء 10 ، الباب 19 من أبواب غسل الميّت.

(134)
    الروايات الظاهرة في نجاسة أهل الكتاب :
    وأمّا الروايات الدالّة على نجاسة أهل الكتاب كما عند المشهور القائلين بنجاستهم ـ كما مرّ ـ فمنها صحيحة محمّد بن مسلم.
    الشيخ الكليني في الكافي ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن العلا بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، في رجل صافح رجلا مجوسيّاً ، فقال : يغسل يده ولا يتوضّأ.
    ورواه الشيخ بإسناده ، عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان : مثله.
    ومثلها موثّقة أبي بصير.
    الكليني ، عن حميد بن زياد ، وعن الحسن بن محمّد ، عن وهيب بن حفص ، عن أبي بصير ، عن أحدهما ( عليهما السلام ) ، في مصافحة المسلم اليهودي والنصراني ، قال : من وراء الثوب ، فإن صافحك بيده فاغسل يدك. ورواه الشيخ بإسناده ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم ، عن علي ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) : مثله (1).
    والرواية سندها الصحيح عبارة عن : الكافي ، عن حميد بن زياد ، عن الحسن ابن محمّد. وفي نسخة الوسائل اشتباه ، فإنّه ذكر الحسن بن محمّد بواو العاطفة ، كما ذكرنا ذلك للأمانة.
    فالسند تامّ ، وكذلك الأدلّة. ويُحمل غسل اليد على ما كان في البين رطوبة مسرية ، ولو كان ذلك من عرق اليد ، لحكومة رواية ابن بكير عليها القائلة :
1 ـ الوسائل 2 : 1019 ، الباب 14 ، الحديث 5.

(135)
« كلّ يابس ذكي ». وما قاله صاحب التنقيح ( قدس سره ) : أنّه من حمل الفرد النادر ، فإنّه غير صحيح ، فإنّ المصافحة غير نادرة ، كما أنّ رطوبته ليست نادرة ، وإلاّ لكان في مسّ الميّت والكلب ، حيث ورد غسل اليد مع رطوبتهما ، وعدم الغسل عند عدمها أيضاً من الحمل النادر.
    نعم لو ثبت من الخارج أنّ اليهودي والنصراني ليس فيهما نجاسة ذاتية ، فإنّه يحمل الغسل حينئذ على الاستحباب ، إلاّ أنّ المقام في بيان الحكم الوضعي لا التكليفي.
    وممّا يدلّ على النجاسة رواية الكليني أيضاً عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد ابن محمّد بن خالد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) ، قال : سألته عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة ، وأرقد معه على فراش واحد ، واُصافحه ؟ قال : لا (1).
    ربما يقال في دلالتها تأمّل ، فإنّ نهي الإمام ( عليه السلام ) عن المصافحة إنّما هو من باب النهي التوبيخي الدالّ على الكراهة لا الحرمة والنجاسة.
    ومن الروايات : عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن سعيد الأعرج ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن سؤر اليهودي والنصراني ، فقال : لا. محمّد بن الحسن ، بإسناده عن محمّد بن يعقوب : مثله (2).
    يقال : لا وجه لعدم الجواز إلاّ النجاسة.
    ومنها : أحمد بن أبي عبد الله البرقي في المحاسن ، عن محمّد بن عيسى ،
1 ـ المصدر نفسه : الحديث 6.
2 ـ المصدر نفسه : الحديث 8.
زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: فهرس