|
|||
(136)
عن صفوان بن يحيى ، عن موسى بن بكر ، عن زرارة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، في آنية المجوس ، قال : إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء.
لقد اختلف الأصحاب في موسى بن بكر الواسطي ، الذي وقع في سند الرواية المزبورة ، أنّه من الثقات أو غيرهم. فقيل : إنّه من الثقات ، لوجوه : الأوّل : أنّه كثير الرواية ، ولكن لا يدلّ ذلك على وثاقته ، إلاّ أن يكون بنحو من الكثرة بحيث يكون كمعلّى بن أحمد ، حيث يقال : إنّ خمس الكافي منه. وكذلك غيره ، يقال : ربع الكافي منه ، ومثل هذا حينئذ لا يصحّ أن ينقل عنه وهو ضعيف ، وإنّما لم يذكر توثيقه ، فهو باعتبار إحراز جلالته ، وكأنّه مفروغ عنه. وموسى بن بكر لم يكن مثل هؤلاء ، ولم يكن له من الكثرة بهذا النحو. الثاني : أنّه قد نقل الثقات عنه ، ولكن هذا لا يدلّ أيضاً على وثاقته ، إذ ليس معنى لا يروون إلاّ عن ثقة ، أنّهم لا يُرسلون. الثالث : إنّما هو ثقة بناءً على أصالة العدالة في الرواة ، كما عند السيّد ابن طاووس عليه الرحمة ، ولكن هذا من المتأخّرين ومن اجتهاده ذلك ، وتوثيقه ليس كتوثيق القدماء ، كما لا نعتقد بأصالة العدالة. الرابع : وهو العمدة ، قول صفوان بن يحيى بأنّه : « لا خلاف فيه بين أصحابنا على اعتباره » ، وحديث صفوان في باب الإرث (1). وفي الكافي ، ورد أنّ صفوان قال : وصلني كتاب موسى بن بكر وحسن ابن سماعة يقول : قرأت على صفوان ذلك الكتاب وفي أوّله ... قال : هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا عن جعفر بن محمّد ( عليهما السلام ). 1 ـ الوسائل ، الجزء 17 ، الباب 18 من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث 3. (137)
وصاحب معجم رجال الحديث (1) أرجع ضمير قال إلى صفوان ، وإنّ المراد من الكتاب كتاب موسى بن بكر ، فيدلّ على توثيقه. إلاّ أنّه إنّما يرجع ضمير قال إلى زرارة ، وهذا إشارة إلى الحكم ، فليس فيه اختلاف عند أصحابنا ، كما يدلّ على ذلك ظهور الرواية ويشهد عليه روايات اُخرى في المقام ، فتوثيق موسى غير ثابت ، فروايته في المقام لا يتمّ الاستدلال بها ، فتأمّل. كما إنّ دلالتها غير تامّة (2).
ومنها : رواية علي بن جعفر : وبإسناده ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، عن العمركي ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، قال : سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه ؟ قال : لا بأس ، ولا يصلّى في ثيابهما. وقال : لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ، ولا يقعده على فراشه ولا مسجده ولا يصافحه. قال : وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق للبس لا يدري لمن كان ، هل تصلح الصلاة فيه ؟ قال : إن اشتراه من مسلم فليصلّ فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله (3). 1 ـ معجم رجال الحديث 19 : 28. 2 ـ قال سيّدنا الخوئي ( قدس سره ) : نعم ، الظاهر أنّه ثقة ، وذلك لأنّ صفوان قد شهد بأنّ كتاب موسى ابن بكر ممّا لا يختلف فيه أصحابنا. وقد روى محمّد بن يعقوب بسنده عن ابن سماعة قال : دفع إليّ صفوان كتاباً لموسى بن بكر عن علي بن سعيد عن زرارة ، قال ( صفوان ) : هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا. 3 ـ الوسائل 2 ، 1020 ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 10. (138)
ومنها : رواية علي بن جعفر أيضاً :
بإسناده ، عن علي بن جعفر ، أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر ( عليه السلام ) عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام ، قال : إذا علم أنّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام ، إلاّ أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثمّ يغتسل. وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء ، أيتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : لا ، إلاّ أن يضطرّ إليه. فلو كان الغُسل للنجاسة فلا فرق بين الإضطرار وغيره ، فذيل الرواية ربما يستفاد منه عدم النجاسة لعدم الفرق ، والمتفاهم العرفي من الإضطرار أنّه ليس له ماء ، لا للتقية كما ذهب إليه الشيخ الطوسي عليه الرحمة ، فيستدلّ حينئذ على استحباب التنزّه ، وغسل الحوض ما دام لم يتصلّ بالمادّة ، فإنّه يغسل. وصاحب الوسائل حمل أوّل الحديث على عدم المادّة ، وآخره محمول على كرّية الماء أو على المادّة في الحمّام ، وهذا من الحمل التبرّعي ، لا اعتبار له ، وإلاّ فنحتاج إلى قرينة يدلّ على ذلك. ومنها : رواية محمّد بن مسلم الصحيحة : محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن آنية أهل الذمّة والمجوس ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم ، ولا من طعامهم الذي يطبخون ، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر. فذيلها يدلّ على أنّ النجاسة باعتبار الخمر ، فيوجب تزلزل مدلول الآية في نجاسة المجوس ، كما في روايات اُخرى قيّد ، مثلا : إذا طبخوا ميتة أو لحم خنزير ، وحينئذ لو كان لنا روايات تدلّ على استحباب الغسل ، فإنّه نرفع اليد حينئذ عن مثل هذه الإطلاقات التي مرّت ، وإن كان للنقاش مجال في بعضها سنداً ودلالة ، (139)
وإلاّ فيأتي دور التعارض بين الأخبار الواردة في المقام ، وإنّ الخبر الثقة إنّما يكون حجّة لو اجتمعت شرائط العمل بالخبر ومنها عدم التعارض ، وما نحن فيه قد نرى طائفة من الروايات تعارض الطائفة الاُولى.
بيان ذلك : أنّ الطائفة الاُولى من الروايات دلّت بالظهور الإطلاقي لا بالنصّ الصريح على نجاسة أهل الكتاب من الكفّار ، فإنّ المصافحة توجب غسل اليد عند رطوبتها وذلك بالظهور الإطلاقي ، فلو كانت هناك روايات تدلّ على جواز ذلك ، فإنّه يوجب حمل الطائفة الاُولى على الاستحباب حينئذ جمعاً بين الأخبار المتعارضة. ولنا روايات صريحة في طهارة أهل الكتاب ذاتاً ، وإنّما نجاستهم عرضية. منها : صحيحة علي بن إبراهيم ، وعنه ، عن أحمد بن محمّد ، عن إبراهيم ابن أبي محمود ، قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنّها نصرانية لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة ، قال : لا بأس ، تغسل يديها (1). ظاهر السؤال أنّه على نحو الفرض ، والجواب صريح على أنّها طاهرة ذاتاً ، إلاّ أنّ لها نجاسة عرضية وتطهر بالتطهير والغسل. ومنها : صحيحة إسماعيل بن جابر : وعن أبي علي الأشعري ، عن محمّد ابن عبد الجبّار ، عن صفوان ( بن يحيى خ ) ، عن إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال : لا تأكله ، ثمّ سكت هنيّة ، ثمّ قال : لا تأكله ، ثمّ سكت هنيّة ، ثمّ قال : لا تأكله ، ولا تتركه ، تقول إنّه حرام ، ولكن تتركه تتنزّه عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير. محمّد بن الحسن بإسناده 1 ـ الوسائل 2 : 1020 ، الباب 14 من أبواب النجاسات ، الحديث 11. (140)
عن محمّد بن يعقوب : مثله (1).
القرينة الحالية تدلّ على أنّ المراد من الطعام هو الطعام المطبوخ ، والتنزّه إنّما هو من جهة أنّ في إنائهم الخمور ، وفي قدورهم يطبخون لحم الخنزير ، وهذا التعليل صريح على طهارتهم الذاتية ، ويدلّ على هذا التعليل ما جاء في صحيحة محمّد بن مسلم : محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن ابن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر ( عليه السلام ) عن آنية أهل الذمّة والمجوسي ، فقال : لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر. ورواه الشيخ باسناده عن الحسن ابن محبوب : مثله (2). وهناك روايات اُخرى دالّة بوضوح على هذا المعنى وتكون قرينة وشاهد على حمل الطائفة الاُولى من الروايات على استحباب التنزّه ، وكراهة المعاشرة معهم. إلاّ إذا قلنا بإعراض الأصحاب عن الطائفة الثانية ممّا يوجب وهنها وعدم مقاومتها مع الاُولى ومقارعتها ، وإعراضهم ليس من جهة عدم التفاتهم إلى الجمع العرفي ، فلا قيمة للثانية حينئذ ، بل وأصبح نجاسة الكفّار وأهل الكتاب رمزاً للشيعة ومن منفرداتهم ، ويمتازونهم عن المخالفين بذلك. كما لا فرق بين ما نحن فيه وبين ماء البئر ونجاسته وتطهيره بالنزح ، فإنّه يمكن الجمع العرفي بين صحيحة البزنطي والروايات الاُخرى المخالفة ، إلاّ أنّهم طرحوا 1 ـ الوسائل 16 : 385 ، الباب 54 من كتاب الأطعمة والأشربة ، الحديث 4. 2 ـ الوسائل 16 : 385 ، الباب 54 ، الحديث 3. (141)
الصحيحة ، وربما ذلك لموافقتها مع العامّة ، وقد ورد في الأخبار العلاجية : « خذ ما خالف العامّة ، فإن الرشد في مخالفتهم » ، ولكن لا يتمّ ذلك فإنّه إنّما يؤخذ بما خالف العامّة فيما لم يمكن الجمع العرفي ، وما نحن فيه يصحّ الجمع العرفي ، إلاّ إذا اطمئنّ وتُيقّن أنّ الروايات الثانية وردت للتقيّة ، حتّى مع وجود الجمع العرفي ، فيصحّ حينئذ طرح المقيّد ، إلاّ أنّه لم نحصل على مثل هذا الاطمئنان في أصالة الجهة ، فإنّها تسقط مع الاطمينان.
وحينئذ يحمل القيد على المطلق في الطائفة الاُولى ، كما في تطهير البئر ، ولا يقال أنّه يقدّم ما وافق كتاب الله ، فإنّ ذلك عند التعارض وعدم وجود الجمع العرفي. ثمّ من الروايات الدالّة على طهارة أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ويتبعهم المجوس ـ : محمّد بن يعقوب ، عن أبي علي الأشعري ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان ، عن عيص بن القاسم ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني والمجوسي ، فقال : إن كان من طعامك وتوضّأ فلا بأس. والمراد من التوضّي هنا مطلق غسل اليدين ، وهو المعنى اللغوي للوضوء لا المعنى المصطلح الشرعي ، ويعلم من هذا أنّ نجاسته عرضية ، وطعامه ويده لا تجري فيهما قاعدة الطهارة ، كما لا تجري في قدور الكفّار ، كما جاء ذلك في روايات اُخرى ، كرداء الصابي ، وصحيحة الحلبي وموثّقة أبي بصير وصحيحة عبد الله بن سنان (1) في إعطاء العارية للذمّي وقوله ( عليه السلام ) : صلّ فيه ولا تغسله من ذلك ، فإنّك أعرته وهو طاهر ولم يتيقّن أنّه نجس. وهذا يعني الاستصحاب ، 1 ـ راجع ذلك في الوسائل 16 : الباب 51 ـ 54 من كتاب الأطعمة والأشربة. (142)
فيستدلّ به على طهارة الثوب العاري ، فطهارتهم ليست تعبّدية ، إنّما يوافق الاُصول كما في الروايات الأخيرة ، ثمّ المراد من الاطمينان هو اليقين ، فلو علم بوقوع المتنجّس ولم يعلم بالطهارة فيشكّ فيها ، مثل أواني الكفّار التي تستعمل في الشراب والدم والميتة ولحم الخنزير ، فإنّها لم يعلم طهارتها ، فإنّه يشترط أن تكون بكيفية خاصّة ولم يعلم ذلك ، فإنّه تستصحب النجاسة حينئذ لعدم المعارض لها بالطهارة ، وأمّا عند المعارضة كما يفهم ذلك من موثّقة أبي بصير.
فقوله ( عليه السلام ) : « أليس يغسل بالماء » ، يلزمه أن يكون لنا يقين بالنجاسة ويقين بالطهارة ، فيتعارضان ويقدّم أصالة الطهارة ، فقال ( عليه السلام ) : « لا بأس ». وزبدة الكلام : أنّ الجمع العرفي بين الروايات الشريفة يقتضي القول بطهارة أهل الكتاب بالخصوص من الكفّار والمشركين ، وإن ذهب المشهور من فقهائنا الأعلام ، ولا سيّما المتقدّمين منهم إلى نجاستهم ، فتدبّر. قال الفيض الكاشاني (1) ، بعد بيان أنّ الكافر غير اليهودي والنصراني والمجوسي نجسة عيناً ولعاباً بالإجماع ولقوله : ( إنَّما المُشْرِكونَ ) و ( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ ) ، فقال : والأكثر على نجاسة الفرق الثلاث أيضاً ، لإشراكهم ، وفيهم ورد ( سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ) (2) ، وللصحاح ، خلافاً للقديمين ; لقوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (3) ، وهو شامل لما باشروه ، وللصحاح المستفيضة ، وعدم صراحة الآيتين. 1 ـ مفاتيح الشرايع 1 : 70. 2 ـ الأعراف : 190. 3 ـ المائدة : 5. (143)
وخصّ الاُولى في النصوص بالحبوب ، وحمل الثاني على التقيّة ، لكن حمل الصحاح الاُول على الكراهة ، لدلالة الحسان عليها ، بل المستفاد من أكثر النصوص أنّ الأمر باجتنابهم إنّما هو لشربهم الخمر ومزاولتهم لحم الخنزير. وفي الصحيح عن مؤاكلة المجوسي فقال : إذا توضّأ فلا بأس. والمراد غسل اليد. وفي هذه الأخبار دلالة على أنّ معنى نجاستهم خبثهم الباطني ، لا وجوب غسل الملاقي ، كما مرّت الإشارة إليه ، وفي كثير منها جواز استرضاع اليهودية والنصرانية (1).
وحكم الشيخ بنجاسة المجبّرة ، والسيّد بنجاسة المخالفين ، أمّا الخارجي والناصب والمجسّم والغالي ، فالظاهر عدم الخلاف في نجاستهم وإن أقرّوا بالشهادتين. انتهى كلامه رفع الله مقامه. وشيخ الطائفة (2) يقول : من صافح ذميّاً أو ناصبياً معلناً بعداوة آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، وجب عليه غسل يده إن كان رطباً ، وإن كان يابساً مسحها بالتراب. انتهى كلامه. فهو يرى نجاسة الكافر الذمّي كما عند المشهور ، والذمّي أعمّ من الكتابي وغيره ، ولكن ينسب للشيخ في نهايته قوله بطهارة الكتابي. قال المحقّق الخوانساري (3) ـ من الفقهاء المعاصرين ـ في بيان الأعيان النجسة : وأمّا الكافر فالمشهور نجاسته بجميع أصنافه ، بل لم يعرف الخلاف في غير الكتابي منه من أحد ، وقد تواتر نقل الإجماع في غير الكتابي ، وأمّا الكتابي فالمشهور نجاسته ، ولكنّه حكي عن ابن الجنيد وظاهر العمّاني ونهاية الشيخ القول بالطهارة ، 1 ـ الوسائل 3 : 519. 2 ـ النهاية : 52 ، طبع وانتشار قدس ـ قم. 3 ـ جامع المدارك في شرح المختصر النافع 1 : 201 ، طبع مؤسسة إسماعيليان ـ قم. (144)
وتبعهم جماعة من متأخّري المتأخّرين ، واستدلّ للنجاسة مطلقاً بقوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، ونوقش بعدم صدق المشرك على نحو الحقيقة على جميع أصناف الكافر ، وعدم إحراز المراد من النجس فإنّ معناه العرفي ، وإن كان هو القذر لكنّه ليس كلّ قذر يجب الاجتناب عنه كما يجب الاجتناب عن النجاسات عند المتشرّعة ، فإنّ القذارة المعنوية الحاصلة بالحيض ونحوه قذارة ، وليست موجبة للاجتناب ، فلعلّ الشرك قذارة معنوية أشدّ من سائر القذارات من دون أن يترتّب عليها آثار النجس بالمعنى المعروف عند المتشرّعة على المتّصف به ، هذا مع أنّ المتبادر من الآية مشركوا أهل مكّة كما يشهد به القرائن.
واستدلّ أيضاً بالأخبار التي استدلّ بها على نجاسة أهل الكتاب ، فإنّها تدلّ على نجاسة سائر الكفّار بالأولوية القطعيّة ، ونوقش في هذا الاستدلال بعدم الأولوية في خصوص الكفّار المنتحلين للإسلام ، واستدلّ لنجاسة أهل الكتاب بأخبار ، منها : موثّقة سعيد الأعرج أنّه « سئل أبو عبد الله ( عليه السلام ) عن سؤر اليهودي والنصراني ، أيؤكل أو يشرب ؟ قال : لا ». ومنها صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما ( عليهما السلام ) ، قال : « سألته عن رجل صافح مجوسيّاً ؟ قال : يغسل يده ولا يتوضّأ » ، ومنها رواية أبي بصير عن أبي جعفر ( عليه السلام ) في مصافحة المسلم لليهودي والنصراني ؟ قال : « من وراء الثياب ، فإن صافحك بيده ، فاغسل يدك » ، وروايات صحاح وغير صحاح ، لكنّ غالبها يمكن الخدشة فيها من جهة الدلالة ، بل بعضها في خلاف المطلوب ظاهر ، وفي قبالها أخبار اُخر يظهر منها الطهارة ، بل لعلّها صريحة في الطهارة الذاتية ، وعلى فرض ظهور هذه الروايات من النجاسة الذاتية يجمع بينهما برفع اليد عن الظهور لصراحة تلك الأخبار في الطهارة الذاتية ، لكنّ الظاهر إعراض الأصحاب عن العمل بالأخبار الدالّة على الطهارة فلا محيص (145)
من القول بالنجاسة. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
وقال صاحب مدارك الأحكام (1) : وأمّا اليهود والنصارى ، فقد ذهب الأكثر إلى نجاستهم ، بل ادّعى عليه المرتضى وابن إدريس الإجماع ، ونقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل القول بعدم نجاسة أسآرهم. وحكى المصنّف في المعتبر عن المفيد ( رحمه الله ) في المسائل العزّية القول بالكراهة ، وربّما ظهر من كلام الشيخ في موضع من النهاية (2). احتجّ القائلون بالنجاسة بأمرين : الأوّل : قوله تعالى ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ; فإنّ اليهود والنصارى مشركون لقوله تعالى بعد حكايته عنهم أنّهم ( اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْباباً مِنْ دونِ اللهِ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ) (3) ، ويتوجّه عليه مضافاً إلى ما سبق منع هذه المقدّمة أيضاً ، إذ المتبادر من معنى المشرك من اعتقد إلهاً مع الله ، وقد ورد في أخبارنا أنّ معنى اتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله : امتثالهم أوامرهم ونواهيهم ، لا اعتقادهم أنّهم آلهة ، وربما كان في الآيات المتضمّنة لعطف المشركين على أهل الكتاب وبالعكس بالواو إشعار بالمغايرة. الثاني : الأخبار الدالّة على ذلك كصحيحة علي بن جعفر ... وحسنة سعيد الأعرج ... وصحيحة محمّد بن مسلم ... احتجّ القائلون بالطهارة بوجوه : 1 ـ مدارك الأحكام 2 : 295 ، طبع مؤسسة آل البيت ـ قم. 2 ـ النهاية : 586. 3 ـ التوبة : 31. (146)
الأوّل : البراءة الأصلية ، فإنّ النجاسة إنّما تستفاد بتوقيف الشارع ، ومع انتفائه تكون الطهارة ثابتة بالأصل.
الثاني : قوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) ، فإنّه شامل لما باشروه وغيره ، وتخصيصه بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر ، لاندراجها في الطيّبات ، ولأنّ ما بعده وهو ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) شامل للجميع قطعاً ، ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر ، فإنّ سائر الكفّار كذلك. وقد يقال : إنّ هذا التخصيص وإن كان مخالفاً للظاهر إلاّ أنّه يجب المصير إليه ، لدلالة الأخبار عليه ومنها ما هو صحيح السند. لكن لا يخفى أنّ هذا الاختصاص لا ينحصر وجهه في النجاسة ، لانتفائها في غير الحبوب ممّا يعلم مباشرتهم له قطعاً. الثالث : الأخبار ، فمن ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص ابن القاسم : أنّه سأل أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن مؤاكلة اليهودي والنصراني فقال : « لا بأس إذا كان من طعامك ». وفي الصحيح عن علي بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى ( عليه السلام ) عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء يتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : « لا ، إلاّ أن يضطرّ إليه » ، وفي الصحيح عن ابراهيم بن أبي محمود قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنّها نصرانية ، لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة ، قال : « لا بأس ، تغسل يديها ». ويمكن الجمع بين الأخبار بأحد الأمرين : إمّا حمل هذه على التقيّة ، أو حمل النهي في الأخبار المتقدّمة على الكراهة. ويشهد للثاني مطابقته لمقتضى الأصل ، وإطلاق النهي عن الصلاة في الثوب قبل الغسل في صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة ، ويدلّ عليه صريحاً خصوص صحيحة إسماعيل بن جابر : قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال : « لا تأكله » ، ثمّ سكت (147)
هنيئة ، ثم قال : « لا تأكله » ، ثمّ سكت هنيئة ، ثم قال : « لا تأكله ، ولا تتركه تقول إنّه حرام ، ولكن تتركه تتنزّه عنه ، إنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير » ، وربما كان في هذه الرواية إشعار بأنّ النهي عن مباشرتهم ، للنجاسة العارضية. فتأمّل. انتهى كلامه رفع الله مقامه. فهو ممّن يقول بطهارة أهل الكتاب وإن تأمّل في ذلك.
وقال الشيخ البهائي (1) ، بعد أن نقل عن ابن أبي عقيل وابن الجنيد والمفيد عدم نجاسة سؤر أهل الكتاب : وربما يحتجّ لهم قدّس الله أسرارهم بالحديث التاسع ـ وهو عن علي بن جعفر ، أنّه سأل أخاه موسى ( عليه السلام ) عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء ، يتوضّأ منه للصلاة ؟ قال : لا ، إلاّ ان يضطر إليه ـ لأنّ جواز الوضوء بسؤرهم إذا اضطرّ إليه دليل طهارته ، وظنّي أنّه لا يبعد أن يقال أنّ الاضطرار يجوز أن يكون كناية عن التقيّة ، فإنّ المخالفين من العامّة على طهارتهم ، وربما يحتجّ لهم أيضاً بالحديث العاشر ـ وهو عن إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما تقول في طعام أهل الكتاب ؟ فقال : لا تأكله ، ثمّ سكت هنيئة ... إلى آخر الحديث كما مرّ ـ كما هو ظاهر ويشعر به تعليله ( عليه السلام ) بأنّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير ، فإنّ هذا التعليل يعطي أنّ نجاستهم لذلك لا لذواتهم وأعيانهم ، ولا يذهب عليك أنّ نهيه ( عليه السلام ) عن طعامهم ثمّ سكوته هنيّة ، ثمّ نهيه ثمّ سكوته هنيّة اُخرى ، ثمّ أمره في المرّة الثالثة بالتنزّه عنه لا تحريمه ممّا يؤذن بالتردّد في حكمه ، وحاشاهم سلام الله عليهم من التردّد فيما يصدر عنهم من الأحكام ، فإنّ أحكامهم ليست صادرة عن الظنّ ، بل هم صلوات الله عليهم قاطعون في كلّ ما يحكمون به ، وقد لاح لي على ذلك دليل أوردته في شرحي على الصحيفة الكاملة ، فهذا الحديث 1 ـ الحبل المتين : 99. (148)
من هذه الجهة معلول المتن ، وذلك يوجب ضعفه. والله أعلم بحقايق الاُمور. انتهى كلامه رفع الله مقامه.
ولكن ربّما استعمل هذا الاُسلوب في الجواب ، لما في نفس السائل ، أو لما كان في المجلس من تقيّة وما شابه ، أو لتثبيت الجواب النهائي بعد ذكر مثل هذه المقدّمات ، وغير ذلك ، والله العالم. وقال المحقّق السبزواري (1) : واحتجّ الأصحاب على نجاسة أهل الكتاب بطريقين : الأوّل : عموم الآيتين ( إنَّما المُشْرِكونَ ) و ( كَذلِكَ يَجْعَلِ اللهُ الرِّجْسَ ) ، أمّا الثانية فظاهرة بعد فرض دلالتها على التنجيس ، وأمّا الاُولى فيحتاج إلى إثبات شرك أهل الكتاب ، واستدلّ عليه بأنّ الشرك محقّق في المجوس منهم لما قيل من أنّهم يقولون بإلهين اثنين ، النور والظلمة ، وفي اليهود والنصارى بدليل قوله تعالى : ( سُبْحانُهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكونَ ) عقيب حكايته عن اليهود وقولهم : ( العُزَيْرُ ابْنُ اللهِ ) ، وعن النصارى : ( إنَّ المَسيحَ ابْنُ اللهَ ). قوله تعالى بعد حكاية ( إنَّهُمْ اتَّخَذوا أحْبارَهُمْ أرْباباً مِنْ دونِ اللهِ ... سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكونَ ). الثاني : الأخبار الدالّة على ذلك ، منها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي ابن جعفر ، عن أخيه موسى ( عليه السلام ) ، قال : سألته عن فراش اليهودي ... وقال : لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ... وسألته عن رجل اشترى ثوباً من السوق ... وما رواه الكليني ... سألته عن مؤاكلة المجوسي. وما رواه علي ابن جعفر ... ثمّ يذكر الروايات الاُخرى التي مرّت علينا فلا نعيد روماً للاختصار ، 1 ـ ذخيرة المعاد : 150. (149)
ثمّ قال : وفيه نظر ، أمّا الاحتجاج بالآيتين فلما عرفت على أنّ إثبات كونهم مشركين بالمعنى المقصود في الآية لا يخلو عن إشكال ، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالشرك من اعتقد لله شريكاً في الإلهية ، ويجوز أن يكون إطلاق الشرك عليهم في قوله تعالى : ( سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ) ، بمعنى آخر كما هو الظاهر ، فلا يعمّ الاستدلال. وقيل : وقد ورد في أخبارنا أنّ معنى اتّخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله امتثالهم أوامرهم ونواهيهم لا اعتقادهم أنّهم آلهة ، وربّما كان في الآيات المتضمّنة العطف المشركين على أهل الكتاب وبالعكس بالواو ، إشعار بالمغايرة.
وأمّا الأخبار ، فلكونها معارضة بأقوى منها دلالة ، فحملها على الاستحباب غير بعيد ، ويدلّ على هذا الحمل بعض الأخبار الآتية. قال الشهيد الثاني : أكثر أخبار النجاسة يلوح منها إرادة الكراهة ، فإنّ النهي عن المصافحة والاجتماع على الفراش الواحد لا بدّ من حمله على الكراهة ، إذ لا خلاف في جوازه ، والأمر بغسل اليد من المصافحة مع كون الغالب انتفاء الرطوبة محتاج إلى الحمل على خلاف الظاهر أيضاً ، وهذا كلّه يوجب ضعف دلالتها فيقرب فيها ارتكاب التأويل ، وذلك بحمل نواهيها على الكراهة وأوامرها على الاستحباب ، وإطلاق النهي عن الصلاة في الثوب قبل الغسل أيضاً يحتاج إلى التأويل على أنّ الأخبار الدالّة على النهي من مؤاكلتهم ، أو الأكل عن طعامهم ، أو الأكل عن إنائهم ، أو شرب سؤرهم ، غير دالّة على نجاستهم ، لعدم انحصار علّة شيء ممّا ذكر في النجاسة ، إلاّ أن يثبت عدم القائل بالفصل. وأمّا حجّة القول بطهارة أهل الكتاب فهي الأصل وظاهر قوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حَلٌّ لَكُمْ ) ، والعرف قاض في مثله بالعموم والاعتبار الذي ذكروها في عموم المفرد المعرّف باللام جار ها هنا ، فيجب الحمل على العموم ، (150)
إذ لا قرينة على إرادة نوع خاصّ ، وإذا ثبت العموم والغالب في الطعام المصنوع المباشرة بالأيدي مع قبوله الانفعال من حيث الرطوبة ، يلزم طهارة المباشرة لاستلزام أكل الطهارة. والأخبار الكثيرة منها : صحيحة إبراهيم بن محمود ، قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : الجارية النصرانية تخدمك ... الخ ، ومنها صحيحة إبراهيم ابن محمود الاُخرى أيضاً ، قال : سألت الرضا ( عليه السلام ) : الخيّاط أو القصار يكون يهودياً أو نصرانياً وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ، ما تقول في عمله ؟ قال : لا بأس. ومنها : صحيحة عيسى بن القاسم : سألت أبا عبد الله عن مؤاكلة اليهودي ... الخ ، ومنها : صحيحة إسماعيل بن جابر : ما تقول في طعام أهل الكتاب ... الخ ، ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما ( عليه السلام ) ، قال : سألت عن آنية أهل الذمّة ... الخ ، ومنها : حسنة الكاهلي ، سأله عن قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي يدعونه إلى طعامهم ، فقال : أمّا أنا فلا أدعوه ولا اؤاكله ، فإنّي لأكره أن اُحرّم عليكم شيئاً يصنعونه في بلادكم. ومنها : رواية زكريا بن إبراهيم ، قال : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، فقلت : إنّي رجل من أهل الكتاب ، وإنّي أسلمت وبقي أهلي كلّهم على النصرانية ، وأنا معهم في بيت واحد لم اُفارقهم بعد ، فآكل من طعامهم ؟ فقال لي : يأكلون لحم الخنزير ؟ قلت : لا ، ولكنّهم يشربون الخمر. فقال لي : كل معهم واشرب. ومنها : صحيحة علي بن جعفر ، قال : سألته عن اليهودي والنصراني يضع يده في الماء ... الخ. ومنها : موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : سألته عن الرجل ، هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب على أنّه يهودي ؟ فقال : نعم ، قلت : فمن ذاك الماء الذي يشرب منه ؟ قال : نعم.
هذا غاية ما يمكن أن يحتجّ به للطهارة ، ويرد على التعلّق بالآية ، أمّا أوّلا : |
|||
|