|
|||
(151)
فلأ نّا لا نسلّم أنّ المراد بالطعام مطلق المأكول ، لجواز أن يكون المراد به الحنطة بناءً على أنّ استعمال لفظ الطعام في البُرّ حقيقة أو غلب استعماله فيه ، قال صاحب المجمل : قال بعض أهل اللغة : الطعام : البرّ خاصّة ، وذكر حديث أبي سعيد .. وسلّمنا أنّ الآية بظاهرها عامّة ، إلاّ أنّ الأخبار ناطقة بتخصيصه ، منها : ما رواه الصدوق عن هشام بن سالم في الصحيح عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، في قوله : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ ) ، قال : العدس والحمّص وغير ذلك ... يذكر المصنّف هنا إشكالا ويجيب ، فراجع. ثمّ يقول : ويرد على التعليق بالأخبار أنّه يجوز حملها على التقيّة جمعاً بينها وبين ما يعارضها من الأخبار السابقة الموافقة لعمل أكثر الأصحاب المخالفة لجمهور العامّة ، وربما كان في بعض الأخبار إشعار بذلك.
والتحقيق : أنّه لولا الشهرة العظيمة بين العلماء وادّعاء جماعة منهم الإجماع على نجاسة أهل الكتاب ، كان القول بطهارتهم متّجهاً لصراحة الأخبار الدالّة على الطهارة على كثرتها في المطلوب ، وبُعد حمل الكلّ على التقيّة ، وقرب التأويل في أخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة ، فإنّه حمل قريب ، خصوصاً إذا تأيّد ببعض القرائن كما مرّ ، على أنّ شيئاً منها غير دالّ على النجاسة ، وإن حمل على الإيجاب والتحريم ، إلاّ أن يثبت عدم القائل بالفصل ، فتدبّر جدّاً ، وعليك بالاحتياط. انتهى كلامه رفع الله مقامه. فهو يميل إلى طهارة أهل الكتاب وإن قال بالاحتياط فكأنّه استحبابي ، كما جاء هذا المعنى أيضاً عند السيّد الخوئي في منهاج الصالحين. وقال صاحب الحدائق الناضرة (1) : وأمّا ما استدلّ به على القول بالطهارة فوجوه : 1 ـ الحدائق الناضرة 5 : 169. (152)
الأوّل : أصالة الطهارة حتى يقوم دليل النجاسة.
الثاني : قوله عزّوجلّ : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) ، فإنّه شامل لما باشروه وغيره ، وتخصيصها بالحبوب ونحوها مخالف للظاهر ، لاندراجها في الطيّبات ، ولأنّ بعدها ( وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) شامل للجميع قطعاً ، ولانتفاء الفائدة في تخصيص أهل الكتاب بالذكر ، فإنّ سائر الكفّار كذلك. الثالث : الأخبار ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم ، سأل عن مواكلة اليهودي والنصراني ... وفي الصحيح عن إبراهيم بن أبي محمود في سؤال الإمام الرضا ( عليه السلام ) عن الجارية النصرانية ، وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود أيضاً ... وصحيحة إسماعيل بن جابر ... وحسنة الكاهلي ... ورواية زكريا ابن إبراهيم ... وصحيحة علي بن جعفر ... ورواية عمّار الساباطي ... ثمّ قال بعد نقله الروايات ـ ولم نذكرها إذ مرّت علينا ذلك بالتفصيل ، فلا نعيد ـ فقال : أمّا الاستدلال بالأصل كما ذكروه فيجب الخروج عنه بالدليل ، وهو ما قدّمناه من الآية والروايات ، وأمّا الاستدلال بالآية فإنّ الظاهر من الأخبار المؤيّدة بكلام جملة من أفاضل أهل اللغة ، هو تخصيص ذلك بالحنطة وغيرها من الحبوب ، إمّا حقيقة أو تغليباً بحيث غلب استعماله فيها. ثمّ يذكر الروايات الدالّة على أنّ المراد من الطعام الحنطة والحبوب ، كما ينقل مقولة أهل اللغة في ذلك كصاحب مجمل اللغة وصاحب الصحاح وفي المغرب ، ونقل ابن الأثير في النهاية عن الخليل ، وقال الفيومي في المصباح المنير ، وفي شمس العلوم ... ثمّ قال : بقي الكلام هنا في الأخبار ومعارضتها بالأخبار المتقدّمة ، الحقّ عندي هو الترجيح لأخبار النجاسة ، وذلك من وجوه : الأوّل : اعتضادها بظاهر القرآن الكريم وقوله تعالى : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ... (153)
الثاني : كون أخبار الطهارة موافقة لمذهب العامّة بلا خلاف ، فتكون للتقيّة ...
الثالث : اعتضاد أخبار النجاسة باتّفاق الأصحاب إلاّ الشاذّ النادر الذي لا يعبأ بمخالفته ، قال في المعالم : ثمّ إنّ مصير جمهور الأصحاب ( رضوان الله عليهم ) إلى القول بالتنجيس مقتض للاستيحاش في الذهاب إلى خلافه ، بل قد ذكرنا أنّ جماعة ادّعوا الإجماع على عموم الحكم بالتنجيس لجميع الأصناف. ثمّ ينقل ما قاله المحقّق السبزواري في ذخيرته كما قدّمناه ثمّ يقول في جوابه : أمّا ما ذكره من التأييد بالشهرة العظيمة فجيّد كما ذكرنا ومؤيّد لما اخترناه ، وأمّا ما ذكره من اتّجاه القول بالطهارة لولا ما ذكره لبعد الحمل على التقيّة وقرب التأويل في أخبار النجاسة بحملها على الاستحباب والكراهة ـ كما ذهبنا إليه ـ فهو وإن سبقه إليه السيّد في المدارك ـ كما عليه كثير من فقهائنا المعاصرين ـ إلاّ أنّه اجتهاد محض في مقابلة النصوص ، وجرأة تامّة على أهل الخصوص ، لما عرفت من أنّهم ( عليهم السلام ) قد قرّروا قواعد لاختلاف الأخبار ومهّدوا ضوابط في هذا المضمار ، ومن جملتها العرض على مذهب العامّة والأخذ بخلافه ، والعامّة هنا كما عرفت متّفقون على القول بالطهارة ، أو هو مذهب المعظم منهم بحيث لا يعتدّ بخلاف غيرهم فيه ، والأخبار المذكورة مختلفة باعترافهم ، فعدولهم بآرائهم من غير دليل عليه من سنّة ولا كتاب ، جرأة واضحة لذوي الألباب. ثمّ لمّا كان صاحب الحدائق من الأخباريين في مرامه الفقهي ، فإنّه بطبيعة الحال يتهجّم على الاُصوليين وينتهز الفرصة على ذلك ، كما نجده هنا حيث يشنّ هجوماً على الفضلاء الأطياب ، فراجع. من الأعلام الذي يذهب إلى نجاسة أهل الكتاب صاحب الجواهر ( قدس سره ) ، فإنّه يدخلهم ضمن المشركين في الآية ، كما يذكر أخباراً في الباب ويقول : وما دلّ نجاسة خصوص اليهود والنصارى أيضاً من المعتبرة ، وهي وإن كان (154)
في مقابلها أخبار دالّة على الطهارة ، وفيها الصحيح وغيره ، بل هي أوضح من تلك دلالة ، بل لولا معلومية الحكم بين الإمامية ـ بأنّ مطلق الكفّار نجس ـ وظهور بعضها في التقيّة ; لاتّجه العمل بها ، لكن لا ينبغي أن يصغى إليها في مقابلة ما تقدّم ، وإن أطنب بعض الأصحاب في البحث عنها ، وتجشّم محامل لها ، يرجع الطرح عليها فضلا عن التقيّة.
كما أنّه لا ينبغي الإصغاء للاستدلال على الطهارة أيضاً بقوله تعالى : ( وَطَعامُ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) بعد ورود الأخبار المعتبرة وفيها الصحيح والموثّق وغيرها بإرادة العدس والحبوب والبقول من الطعام ، سيّما مع تأييدها ـ بقول أهل اللّغة ، فيذكر بعضها ، كما مرّ ـ وأخيراً يقول : وكيف كان فتطويل البحث في المقام تضييع للأيام في غير ما أعدّها له الملك العلاّم. وأمّا سيّدنا الحكيم ( قدس سره ) ، فإنّه يذكر طهارة أهل الكتاب كما جاء ذلك في المستمسك (1) ، قائلا بعد بيان الاستدلال بالآية على مطلق الكفّار ومناقشته وبيان بعض الروايات الدالّة على نجاستهم : هذا ولكن يعارض النصوص المذكورة ـ في نجاسة الكفّار ـ نصوص اُخرى ، منها : ما ورد في جواز الصلاة في الثياب التي يعملها المجوس وأهل الكتاب كصحيح معاوية : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الثياب السابريّة يعملها المجوس وهم أخباث يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ، ألبسها ولا أغسلها واُصلّي فيها ؟ قال ( عليه السلام ) : نعم ، قال معاوية : فقطعت له قميصاً وخطته وفتلت له إزاراً ورداء من السابري ، ثمّ بعثت بها إليه في يوم الجمعة حين ارتفع النهار ، فكأنّه عرف ما اُريد فخرج بها إلى الجمعة. 1 ـ مستمسك العروة الوثقى 1 : 370 ، طبعة مكتبة السيّد النجفي العامّة ـ قم. (155)
ونحوه غيره. وقد عقد لها في الوسائل باباً في كتاب الطهارة (1) ، لكن حملها ( قدس سره ) على صورة عدم العلم بتنجيسهم لها وهو غير بعيد ، كما يشهد به ما ذكر في جملة من أنّهم يشربون الخمر ويأكلون الميتة ، ولا إشكال في نجاستهما ، فلو كانت شاملة لصورة العلم بالملاقاة برطوبة كانت دالّة على طهارة الميتة والخمر أيضاً. ويشير إلى ذلك ما في صحيح ابن سنان : سأل أبي أبا عبد الله ( عليه السلام ) وأنا حاضر : إنّي اُعير الذمّي ثوباً ، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اُصلّي فيه ؟ فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجس ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجس ، ومن ذلك يظهر عدم دلالة ما تضمّن جواز الصلاة في الثوب الذي يشترى من اليهود والنصارى والمجوس قبل أن يغسل على طهارتهم. ومنها : ما تضمّن جواز مؤاكلتهم مثل صحيح العيص ... ودلالتها على الطهارة أيضاً غير ظاهرة لقرب احتمال كون الملحوظ في جهة السؤال مجرّد المؤاكلة لا المساورة ، ولا ينافيه ما ذكر من غسل اليد لاحتمال كونه دخيلا في ذلك بما أنّه من آداب الجلوس على المائدة ، لا من حيث كونه دخيلا في طهارة السؤر.
أقول : ويبعد ذلك جدّاً ، فإنّ لازم المؤاكلة تلاقي الأيدي والرطوبات غالباً ، كما أنّ السؤال ليس عن آداب الأكل والجلوس على المائدة ، إنّما في مقام حكم المؤاكلة من حيث الطهارة والنجاسة ، لا سيّما والمخالفين يقولون بالطهارة في مطلق المشركين ، فالسؤال عن أهل الكتاب بالخصوص ، إلاّ أن يقال : ذلك من التقية. وهو بعيد أيضاً ، كما يشهد الحال على ذلك. 1 ـ الوسائل ، كتاب الطهارة ، الباب 73 من أبواب النجاسات. (156)
ثمّ قال السيّد ( قدس سره ) : ومنها : ما دلّ على جواز الأكل من طعام أهل الكتاب وآنيتهم والوضوء من سؤرهم كصحيح إسماعيل بن جابر ... وخبر زكريا بن إبراهيم ... وصحيح ابن مسلم ... وموثّق عمّار ... وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود الاُولى ... وصحيحته الاُخرى ... وصحيحة علي بن جعفر ـ ولم نذكر الروايات لأنّها مرّت علينا ، فراجع. ثمّ قال : ـ ولكن يمكن أن يناقش ـ فذكر مناقشات في دلالة الروايات ، ومناقشاته قابلة للنقاش كما هو واضح ، ولهذا قال : وكيف كان نقول : إن أمكن البناء على المناقشات المذكورة في هذه النصوص ـ ولو للجمع بينها وبين ما دلّ على النجاسة ـ فهو المتعيّن. وإن لم يمكن ذلك لبعد المحامل المذكورة وإباء أكثر النصوص عنها ، فالعمل بنصوص الطهارة غير ممكن لمخالفتها للإجماعات المستفيضة النقل ـ كما عرفت ـ بل للإجملاع المحقّق ـ كما قيل ـ ... ثمّ يردّ مخالفة ابن الجنيد وابن أبي عقيل والشيخ المفيد في رسالته الغريّة والشيخ في النهاية ـ كما مرّ تفصيل ذلك ـ فيقول : والعمدة في الحكم عندهم الإجماع ، واحتمال أنّ هذا الإجماع حدث في العصر المتأخّر عن عصر المعصومين ( عليهم السلام ). فلا يقدح بالعمل بنصوص الطهارة ، بعيد جدّاً ، فإنّ كثرة الابتلاء بموضوع الحكم ممّا يمنع التفكيك بين الأزمنة في وضوحه وخفائه ، بحيث يكون بناء أصحاب الأئمّة على الطهارة ، وخفي ذلك على من تأخّر عنهم ، فتوهّموا بناءهم على النجاسة فبنوا عليها تبعاً لهم. وبالجملة : الوثوق النوعي المعتبر في حجّية الخبر لا يحصل في أخبار الطهارة بعد هذا الإجماع.
أقول : بعد استعراض الإجماعات المنقولة في هذه المسألة نرى أنّها من الإجماع المدركي لا التعبّدي الكاشف عن قول المعصوم ( عليه السلام ) ، فليس بحجّة بعد رجوعنا إلى المستندات والمدارك من النصوص الشرعية ، ولا يبعد أن يكون (157)
الإجماع عند المتأخّرين دون المتقدّمين من أصحاب الأئمة في خصوص هذه المسألة ، لأنّهم ابتلوا بعصور خطرة وشرسة ضد الشيعة والتشيّع ، ممّا كان يؤدّي الأمر أن يخالفوا العامّة في معظم الأشياء ، ومنها طهارة الكفّار ، فخالفوهم حتّى في الكتابي الذي كان يحكم عليه بالطهارة ما لم يعلم بنجاسته ـ أي نجاسته كانت عرضية وليست عينية وذاتيّة ـ وأخيراً بعد النقض والإبرام يقول السيّد الحكيم ( قدس سره ) : ومن ذلك تعرف أنّ الأقوى ما عليه الأصحاب من النجاسة لولا ما يقتضيه النظر في روايات نكاح الكتابية متعة أو مطلقاً (1) ، فإنّها على كثرتها واشتهارها وعمل الأصحاب بها لم تتعرّض للتنبيه على نجاستها ، فإن الملابسات والملامسات التي تكون بين الزوج والزوجة لا تمكن مع نجاسة الزوجة ، ولم يتعرّض في تلك النصوص للإشارة إلى ذلك ، فلاحظها وتدبّر. بل الذي يظهر من مجمع البيان المفروغية عن حلّ طعام الكتابي إذا لم يكن محتاجاً إلى التذكية ، وأنّ الخلاف في طهارة ما هو محتاج إلى التذكيّة من اللحوم والشحوم ، فراجع ، والله سبحانه وليّ التوفيق. انتهى كلامه.
وقال سيّدنا الخوئي ( قدس سره ) (2) ، بعد الاستدلال بالآية الشريفة ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، ومناقشة الاستدلال قائلا ـ بعد بيان أنّ المشرك ومنكر الله والناصبي يحكم عليهم بالنجاسة ، وأنّه لا خلاف في ذلك ـ : وأمّا غير هذه الفرق الثلاث من أصناف الكفّار كأهل الكتاب فقد وقع الخلاف في طهارتهم ، وهي التي نتكلّم عنها في المقام ، 1 ـ الوسائل ، الباب 2 ـ 8 من أبواب ما يحرم بالكفر من كتاب النكاح ، وباب 13 من أبواب المتعة. 2 ـ التنقيح 2 : 43. (158)
فقد يستدلّ على نجاسة الكافر بجميع أصنافه بقوله : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، وبما أنّ أهل الكتاب قسم من المشركين لقوله تعالى حكايةً عن اليهود : ( عَزيرُ ابْنُ اللهِ ) ، ( سُبْحانهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ) فتدلّ الآية المباركة على نجاسة أهل الكتاب كالمشركين.
وقد اُجيب عن ذلك باُمور ونوقش فيها بوجوه لا يهمّنا التعرّض لها ، ولا لما اُورد عليها من المناقشات ، بل يصحّ في الجواب أن يقال : أنّ النجس عند المتشرّعة وإن كان بالمعنى المصطلح عليه ، إلاّ أنّه لم يثبت كونه بهذا المعنى في الآية المباركة لجواز أن لا تثبت النجاسة ـ بهذا المعنى الاصطلاحي ـ على شيء من الأعيان النجسة في زمان نزول الآية أصلا ، وذلك للتدرّج في بيان الأحكام ، بل الظاهر أنّه في الآية المباركة بالمعنى اللّغوي وهو القذارة ، وأيّ قذارة أعظم وأشدّ من قذارة الشرك ؟ وهذا المعنى هو المناسب للمنع عن قربهم من المسجد الحرام ، حيث إنّ النجس بالمعنى المصطلح عليه لا مانع من دخوله المسجد الحرام فيما إذا لم يستلزم هتكه ، فلا حرمة في دخول الكفّار والمشركين المسجد من جهة نجاستهم ـ بهذا المعنى ـ وهذا بخلاف النجس بمعنى القذر ، لأنّ القذارة الفكرية مبغوضة عند الله سبحانه ، والكافر عدوّ الله وهو يعبد غيره ، فكيف يرضى صاحب البيت بدخول عدوّه على بيته ؟ وكيف يناسب دخول الكافر بيتاً يعبد فيه صاحبه وهو يعبد غيره ؟ أقول : مقولته الأخيرة ( قدس سره ) أشبه بالخطاب الحماسي من البرهان القياسي ، فإنّه لو تَمّ ، لقيل بأنّ الله الطاهر جلّ جلاله ، كما لا يرضى أن يدخل بيته القذر الباطني والفكري والعقائدي ، فكذلك لا يرضى بالقذارة العينيّة الحسّية ، فإنّه يحرم تنجيس المسجد وهتك حرمته ، وأيّ هتك أعظم من دخول من كان تجسيداً (159)
للنجاسة العينيّة ، وأنّ الظاهر عنوان الباطن ، فتأمّل.
ثمّ قال السيّد ( قدس سره ) : وثانياً : إنّ الشرك له مراتب متعدّدة لا يخلو منها غير المعصومين ( عليهم السلام ) وقليل من المؤمنين ، ومعه كيف يمكن الحكم بنجاسة المشرك بما له من المراتب المتعددة ؟ فإنّ لازمه الحكم بنجاسة المسلم المرائي في عمله ، حيث إنّ الرياء في العمل من الشرك ، وهذا كما ترى لا يمكن الالتزام به ، فلا مناص من أن يراد بالمشرك مرتبة خاصّة منه وهي ما يقابل أهل الكتاب. أقول : لا شكّ أنّ للشرك مراتباً ، فإنّه من الكلي المشكك ذي المراتب الطولية والعرضية ، إلاّ أنّ المراد من المرتبة الخاصّة منه ، ليس ما يقابل أهل الكتاب ، بل المراد الشرك في العقيدة ، فهو أعمّ ، قد خرج منه الشرك العملي ، وقد مرّ تفصيل هذا البحث في المقدّمة ، وحينئذ يكون المراد الشرك في العقيدة ، وهو يعمّ الكتابي أيضاً ، لا سيّما لو تمسّكنا بالآيات التي تُشير إلى ذلك كقول اليهود : العزير ابن الله ، والنصارى ، المسيح بن الله ، وقوله سبحانه وتعالى : ( سُبْحانهُ عَمَّا يُشْرِكونَ ). ثمّ قال السيّد ( قدس سره ) : وثالثاً : إنّ ظاهر الآيات الواردة في بيان أحكام الكفر والشرك ـ ومنها هذه الآية ـ أنّ لكلّ من المشرك وأهل الكتاب أحكاماً ما تخصّه ـ مثلا ـ لا يجوز للمشرك السكنى في بلاد المسلمين ويجب عليه الخروج منها ، وأمّا أهل الكتاب فلا بأس أن يسكنوا في بلادهم مع الالتزام بأحكام الجزية والتبعيّة للمسلمين ، فحكمهم حكم المسلمين ، وغير ذلك ممّا يفترق فيه المشرك عن أهل الكتاب ، ومنه تبرّيه سبحانه من المشركين دون أهل الكتاب ، ومعه كيف يمكن أن يقال إنّ المراد من المشركين في الآية أعمّ من أهل الكتاب ؟ فإنّ ظاهرها أنّ المشرك في مقابل أهل الكتاب. أقول : الظاهر العموم للإطلاق ، ومجرّد احتمال التفرقة بين المشرك والكافر (160)
في المورد وإن كان في موارد اُخرى لا يكفي ـ لا سيّما إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ـ ثمّ سبحانه يتبرّأ من المشرك وكذلك من الكتابي كما في سورة الحمد في قوله تعالى : ( غَيْرِ المَغْضوبِ ) المفسّر باليهود ( وَلا الضَّالِّينَ ) المفسّر بالنصارى ، فتدبّر.
ثمّ قال السيّد ( قدس سره ) : فالإنصاف أنّ الآية لا دلالة لها على نجاسة المشركين فضلا عن دلالتها على نجاسة أهل الكتاب. وهذا يعني ما قاله أبناء العامّة من القذارة الباطنية والعرضية ، لا العينيّة والظاهرية الذاتيّة ، إلاّ أنّ السيّد المحقّق ( قدس سره ) قال : إلاّ أنّك عرفت أنّ نجاسة المشركين مورد التسالم القطعي بين أصحابنا ، قلنا بدلالة الآية أم لم نقل ، ـ وقد أشرنا إلى هذا المعنى في أوّل الفصل ـ كما أنّ نجاسة الناصب ومنكري الصانع ممّا لا خلاف فيه ، فلا بدّ من التكلّم في نجاسة غير هذه الأصناف الثلاثة من الكفّار ، ويقع الكلام أولا في نجاسة أهل الكتاب ، ثمّ نعقبه بالتكلّم في نجاسة بقيّة الأصناف. فيذكر الروايات الدالّة على النجاسة ومعارضتها بالدالّة على الطهارة وترجيحها والجمع بينهما. فقال ( قدس سره ) ورفع الله مقامه (1) : المشهور بين المتقدّمين والمتأخّرين : نجاسة أهل الكتاب. بل لعلّها تعدّ عندهم من الاُمور الواضحة ، حتّى أنّ بعضهم ـ على ما في مصباح الفقيه ـ ألحق المسألة بالبديهيات التي رأى التكلّم فيها تضييعاً للعمر العزيز ، وخالفهم في ذلك بعض المتقدّمين وجملة من محقّقي المتأخّرين حيث ذهبوا إلى طهارة أهل الكتاب ، والمتّبع دلالة الأخبار ، فلنقُل ـ أوّلا ـ الأخبار المستدلّ بها 1 ـ التنقيح 2 : 45. (161)
على نجاسة أهل الكتاب ، ثمّ نعقبها بذكر الأخبار الواردة في طهارتهم ، ليرى أيّهما أرجح في مقام المعارضة. فمنها : حسنة سعيد الأعرج ، ولا إشكال في سندها ، كما إنّ دلالتها تامّة ; لأنّ ظاهر السؤال من سؤرهم نظير السؤال عن سؤر بقية الحيوانات إنّما هو السؤال عن حكم التصرّف فيه بأنحاء التصرّفات ، وقد صرّح بالسؤال عن أكله وشربه في رواية الصدوق ـ ثمّ يذكر الروايات الاُخرى ويناقشها سنداً ودلالة ـ ثمّ قال : هذا تمام الكلام في الأخبار المستدلّ بها على نجاسة أهل الكتاب ، وقد عرفت المناقشة في أكثرها ، ولكن في دلالة بعضها على المدّعى غنىً وكفاية ، بحيث لو كنّا وهذه الأخبار لقلنا بنجاسة أهل الكتاب لا محالة ، إلاّ أنّ في قبالها عدّة روايات معتبرة فيها صحاح وغير صحاح دلّت بصراحتها على طهارتهم ، وإليك نصّها ، فمنها : صحيحة العيص بن القاسم ... ومفهومها عدم جواز مؤاكلتهم إذا كان من طعامهم أو لم يتوضؤوا ، ومن ذلك يظهر أنّ المنع حينئذ مستند إلى نجاسة طعامهم أو نجاسة أبدانهم العرضية الحاصلة من ملاقاة شيء من الأعيان النجسة كلحم الخنزير وغيره ... وكيف كان فالصحيحة بصراحتها دلّت على طهارة أهل الكتاب بالذات وجواز المؤاكلة معهم في طعام المسلمين إذا توضّؤوا ـ أي غسلوا ـ إذ لولا طهارتهم لم يكن وجه لجواز مؤاكلتهم سواء توضّؤوا أم لم يتوضّؤوا. وعليه فيكون المنع عن المؤاكلة من طعامهم مستنداً إلى نجاستهم العرضية لا محالة. ثمّ يذكر الروايات الاُخرى الدالّة على ذلك كما مرّ. ثم قال : وبعد ذلك لا بدّ من ملاحظة المعارضة بينها وبين الأخبار الواردة في نجاستهم. فنقول : مقتضى الجمع العرفي بين الطائفتين حمل أخبار النجاسة على الكراهة ، لأنّ الطائفة الثانية صريحة أو كالصريحة في طهارتهم ، والطائفة الاُولى ظاهرة في نجاسة أهل الكتاب لأنّ العمدة في تلك الطائفة موثّقة سعيد
(162)
الأعرج أو حسنته المشتملة على قوله ( عليه السلام ) : « لا » ، وصحيحة علي بن جعفر المتضمّنة لقوله ( عليه السلام ) : « فيغسله ثمّ يغتسل » ، وهما كما ترى ظاهرتان في النجاسة وقابلتان للحمل على الاستحباب والكراهة ، وأمّا الطائفة الثانية التي منها صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة ، فهي كالصريح في أنّ النهي عن مؤاكلة أهل الكتاب تنزيهي وليست بحرام ، فتدلّ على طهارتهم بالصراحة ، ومعه لا مناص من رفع اليد عن ظاهر الاُولى بصراحة الثانية كما جرى على ذلك ديدن الفقهاء ( قدس سرهم ) في جميع الأبواب الفقهية عند تعارض النص والظاهر ـ لأنّ النصّ من العلم ، والظاهر من الظنّ ، والظنّ حجّة فيما لم يكن العلم كما هو واضح ـ ومن هنا ذهب صاحب المدارك والسبزواري ( قدس سرهما ) إلى ذلك وحملا الطائفة الاُولى على الكراهة واستحباب التنزّه.
إلاّ أنّ معظم الأصحاب لم يرضوا بهذا الجمع ، بل طرحوا أخبار الطهارة ـ على كثرتها ـ وعملوا على طبق الطائفة الثانية. والمستند لهم في ذلك ـ على ما في الحدائق ( ومرّ تفصيله ) ـ أمران : الأوّل : دعوى أنّ أخبار الطهارة مخالفة للكتاب لقوله عزّ من قائل : ( إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ ) ، وأخبار النجاسة موافقة له ، وقد بيّنا في محلّه أنّ موافقة الكتاب من المرجّحات ، و ( يدفعه ) : ما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً من منع دلالة الآية المباركة على نجاسة المشركين فضلا عن نجاسة أهل الكتاب. وثانيهما : أنّ أخبار النجاسة مخالفة للعامّة لأنّ معظم المخالفين لولا كلّهم يعتقدون طهارة أهل الكتاب ، وقد ورد في روايات أئمتنا ( عليهم السلام ) الأمر بأخذ ما يخالف مذهب المخالفين من المتعارضين ، ومقتضى ذلك الأخذ بما دلّ على نجاسة أهل الكتاب وحمل أخبار الطهارة على التقيّة ـ ويذكر السيّد هجوم صاحب الحدائق على من لم يذهب إلى ذلك في هذا المقام ـ ثمّ يقول : ولا يخفى (163)
أنّ رواياتنا وإن تضمّنت الأمر بعرض الأخبار الواردة على مذهب المخالفين والأخذ بما يخالفه ، إلاّ أنّه يختصّ بصورة المعارضة ، وأين التعارض بين قوله ( عليه السلام ) ( لا ) في أخبار النجاسة ، وبين تصريحه ( عليه السلام ) بالكراهة والتنزيه في نصوص الطهارة ؟ فهل ترى من نفسك أنّهما متعارضان ؟ فإذا لم يكن هناك معارضة ، فلماذا تطرح نصوص الطهارة على كثرتها ؟ ثمّ يدفع حمل الأخبار على التقيّة في مقام الحكم وفي مقام العمل ، فراجع. ثمّ يقول : وعلى الجملة إنّ القاعدة تقتضي العمل بأخبار الطهارة وحمل أخبار النجاسة على الكراهة واستحباب التنزّه عنهم ، كما إنّ في نفس الأخبار الواردة في المقام دلالة واضحة على ارتكاز طهارة أهل الكتاب في أذهان المتشرّعة في زمانهم ( عليهم السلام ) ، وإنّما كانوا يسألونهم عن حكم مؤاكلتهم أو غيرها لأنّهم مظنّة النجاسة العرضية ... فيذكر السيّد الروايات الدالّة على ذلك ، ثمّ قال : ـ وبذلك ظهر أنّ طهارة أهل الكتاب كانت ارتكازية عند الرواة إلى آخر عصر الأئمّة ( عليهم السلام ) ، وإنّما كانوا يسألونهم عمّا يعمله أهل الكتاب أو يساوره من أجل كونهم مظنّة النجاسة العرضية ، ومن هنا يشكل الإفتاء على طبق أخبار النجاسة ، إلاّ أنّ الحكم على طبق روايات الطهارة أشكل ، لأنّ معظم الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين على نجاسة أهل الكتاب فالاحتياط اللزومي ممّا لا مناص عنه في المقام.
أقول : ولمثل هذا الإستيحاش من مخالفة معظميّة الأصحاب أو المشهور أو مخالفة الإجماعات المنقولة أو المتواترة نرى كثيراً من الفقهاء من يتوقّف عن الإفتاء بالصّراحة في مخالفة المشهور ، إلاّ من كان كابن إدريس الحلي ، فإنّه يحاول أن يكسر الطوق ، ولا يخاف من لومة اللاّئم وهجمة الناقم ، وكثيراً ما يحارب أمثال هؤلاء في حياتهم ، لحجاب المعاصرية من قبل خصومهم ، إلاّ أنّه (164)
بعد رحلتهم ، فإنّهم يذكرون بتبجيل واحترام وتقديس ، حتّى يوسم ابن إدريس بفحل الفحول ، وللحروب رجالها.
هذا ولتعميم الفائدة وترسيخ المعنى والتحليق في الأجواء العلمية مع عبائر علمائنا الأعلام ، لا بأس أن أذكر ما قاله الشيخ عبد النّبي العراقي ( قدس سره ) (1) ، بعد أن ذكر الآية والروايات الدالّة على النجاسة ونجاسة أهل الكتاب ، قال : وإن أمكن المناقشة في دلالة بعضها ، لكنّ العمدة أنّ في مقابل تلك الأخبار عدّة أخبار دالّة على الطهارة ، وهي أكثر عدداً منها ، وأصحّ سنداً منها ، وأوضح دلالة منها ، ولا غرو علينا في نقل نبذة منها ـ فينقل بعض الروايات التي ذكرنا معظمها حسب التتبّع ـ فيقول : إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في طهارتهم ، هذا ولكن مع قطع النظر عن المناقشة في سند البعض أو الدلالة المذكورة في كتب الأصحاب ، إنّ تلك الأخبار الدالّة على الطهارة كما أشرنا ، وإن كانت أكثر وأوضح دلالة من الدالّة على النجاسة ، لكنّه لا بدّ أن تحمل على التقيّة ، إذ مذاهب العامّة برمّتهم على الطهارة ، فحينئذ لو بني على المعارضة ، فلا بدّ من الأخذ بأخبار النجاسة وطرح أخبار الطهارة من جهات عديدة : الاُولى : أنّها موافقة لمذاهب العامّة ، وأخبار النجاسة مخالفة لهم برمّتهم ، حتّى أنّهم في أغلب المسائل قد اختلفوا فيها ، وفي تلك المسألة لم أجد فيهم مخالفاً ، لا قبل اتّفاقهم على المذاهب الأربعة ولا بعدهم. أقول : أوّلا : إنّما يؤخذ في الأخبار المتعارضة بما يخالف العامّة ـ حسب الأخبار العلاجية ـ فيما لا يمكن الجمع العرفي بينها ، فإنّه يرجع حينئذ إلى المراجحات 1 ـ المعالم الزلفى 1 : 339. (165)
الداخلية أو الخارجية ، ومنها ما يوافق كتاب الله ، ومنها ما يخالف العامّة ، فإنّ الرشد في خلافهم ، أمّا إذا أمكن الجمع ، فالجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، فحينئذ يرجع إلى الجمع ، لا سيّما لو كان عليه شاهداً من الكتاب أو السنّة أو العقل أو الإجماع ، وما نحن فيه قد جمعنا بين الأخبار المتعارضة كما مرّ تفصيله ، فلا مجال للرجوع إلى المرجّحات ، ومن ثمَّ عند التساوي نقول بالتساقط والرجوع إلى الاُصول العملية ، أو بالتخيير على اختلاف المباني ، كما هو في محلّه في علم اُصول الفقه. وثانياً : عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود ، فإنّه يدّعي أنّه لم يجد فيهم مخالفاً ، والحال قد مرّ علينا في الفصل الأوّل اختلاف القوم أيضاً في نجاسة الكفّار أو طهارتهم وإن كان المشهور عندهم الثاني ، فتأمّل.
ثمّ قال الشيخ المحقّق : والثانية : أنّ أخبار النجاسة موافق للكتاب كما عرفت بأنّه ناطق بالنجاسة ، وأخبار الطهارة مخالفة للكتاب. أقول : قد ذكرنا بالتفصيل أنّ المراد من المشرك عابد الصنم ومن كان منكراً للاُلوهية بالأولوية ، وأمّا أهل الكتاب فقد خرج بالدليل باعتبار الروايات الدالّة على ذلك ، هذا أوّلا. وثانياً : لقد مرّ علينا الإشكالات الخمسة على الاستدلال بالآية الشريفة ، لا سيّما خامسها ، حيث من الصعب الذبّ عنه ، فيلزم إجمال الاستدلال ، ومعه لا يمكن أن يتمسّك به على نجاسة الكفّار ذاتاً. وثالثاً إنّما تكون أخبار النجاسة في خصوص الكتابي موافق للكتاب لو ثبت دخوله تحت عنوان المشرك في الآية بالخصوص ، وأنّى لكم إثبات ذلك فدونه خرط القتاد كما مرّ. ثمّ قال : والثالثة : أنّ أخبار النجاسة هو المشهور وأخبار الطهارة شاذّ نادر. أقول : سبحان الله ، فإنّه ينقض كلامه في نفس الصفحة وقبل سطور حيث قال : ( إنّ تلك الأخبار الدالّة على الطهارة كما أشرنا وإن كانت أكثر وأوضح دلالة |
|||
|