زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: 166 ـ 180
(166)
من الدالّة على النجاسة ) فإذا كانت أكثر يا هذا ، كيف تكون شاذّة ونادرة ؟!
    هذا أوّلا ، وثانياً : ربّ مشهور لا أصل له ، كما إنّ الشهرة الفتوائية ليست بحجّة ، كما إنّه في مقام التعارض يلزم أن يؤخذ قوله ( عليه السلام ) : « خذ ما اشتهر بين أصحابك » قبل الرجوع إلى مخالفة العامّة ، أضف إلى ذلك ، أنّه يمكن الجمع العرفي كما ذكرنا بحمل أخبار النجاسة على التنزيه والكراهة ، ومعه لا مجال للرجوع إلى المرجّحات ، فإن الجمع مهما أمكن أولى.
    ثمّ قال : والرابعة : موافقة الاحتياط ، والطهارة مخالفة له.
    أقول : ربّما الاحتياط في ترك الاحتياط كما لو لزم العسر والحرج ، سيّما فيما لو اضطرّ إلى مراودة أهل الكتاب في بلادهم ، فليس كل احتياط واجب إلاّ مع العلم الإجمالي ، نعم الاحتياط العقلي فإنّه حسنٌ على كلّ حال ، ولكن ما لم يستوجب الوسوسة والعسر والحرج ، ثمّ الكلام في إثبات أصل الحكم الشرعي التوقيفي التعبّدي ، ومثل هذا الاحتياط لا دليل عليه ، سوى الاستحسانات العقلية التي لا دليل عليها.
    ثمّ في الوجه الخامس يستعمل الشيخ كصاحب الحدائق اُسلوباً خطابياً حماسيّاً ، وكأنّه في مقام الخطابة ، وبظنيّاته يريد أن يُثير الانتفاضة في نفوس الجماهير ، على أنّ أخبار الطهارة مخالفة للإجماع ، والحال ليس كذلك كما مرّ بيانه بالتفصيل فلا نعيد ، إلاّ أنّه نذكر ما قاله في الوجه الخامس ، حتّى يعرف المطالع كيف إنّ بعض الأعلام يستعمل الاُسلوب الخطابي في مقام البرهان والاستدلال ، فيقول ( قدس سره ) : والخامسة : أنّ أخبار الطهارة مخالفة للإجماع ، بل مخالفة لتواتر الإجماعات ، بل مخالفة لضرورة المذهب ، كما عرفت عن حاشية المدارك ، وأخبار النجاسة موافقة لها ، بل لم يوجد القائل بالطهارة بين الإمامية ـ اُنظر هذا الإدّعاء


(167)
الكبير ولا تعجب !! ـ وعليه تلك الأخبار الدالّة على الطهارة قد أعرض عنها الأصحاب فلا يشملها دليل الحجّية حتى يقع التعارض ، فلا تعارض مع أخبار النجاسة حتى يحتاج إلى ملاحظة المرجّحات ، ـ إسمع هذا الاُسلوب الخطابي ـ أترى أنّ هؤلاء أعلام الدين واُمناء الرحمن وأولياء أيتام آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) وعمد السماوات ونوّاب الحجّة ( عليه السلام ) وخلفاء الرحمة بنصّ الرسول لم يقفوا على تلك الأخبار ، ولم يطّلعوا عليها مع أنّها بواسطتهم وصلت إلينا ، وعليه فتلك الأخبار الدالّة على الطهارة بأيّ مكانة كانت سنداً ودلالة لا اعتبار بها لإعراض المذهب عنها ، وقد أشرنا بأنّه ليس في المذهب مخالف أصلا حتّى أنّ الذي نسب إليه الخلاف أيضاً كلامه في مقام آخر ، لا النسبة ، بل كلّ واحد يتكلّم في شيء غير مرتبط بالمقام حتّى لو كان له ربط أيضاً يكون من جهة اُخرى ، ككون الماء قليلا ، وإنّه يرى عدم انفعاله ، أو ذكر في صدر كلامه وبعده ما يدلّ أنّ القائل يريد شيئاً آخر كالشيخ ، وكيف كان لا يعتنى بخلاف من خالف على فرض وجوده ، سبقه الإجماعات ولحقهم كذلك ، فالحقّ أنّ أهل الكتاب من الكفّار كسائر الفرق.
    ونقول : بل الحقّ أنّهم خرجوا بالدليل وليس كسائر الفرق.
    ثمّ قال : وأمّا المجوس فهل أنّهم من أهل الكتاب أم لا ؟ فيه خلاف. والحقّ كما عليه المشهور : أنّهم من أهل الكتاب ، ولا ينافي في كونهم كذلك مع كونهم مشركين بعد ارتفاع كتابهم كاليهود والنصارى ، ثمّ يذكر المصنّف حكم رطوبات الكافر وأجزائه سواء كانت ممّا تحلّه الحياة أو لا ، وأنّها محكومة بالنجاسة مطلقاً ، ثمّ قال : هذا وإنّي بعد ذلك ظفرت بطرفة شيء في رسالة بعض من لا حظّ له من العلم في طهارة أهل الكتاب من أعظم الدليل على طهارتهم جواز تزويج الكتابية ـ كما أشار إلى ذلك سيّدنا الخوئي ( قدس سره ) ـ وجواز اتّخاذها ظئراً وجواز إعارتهم الثوب


(168)
وأثاث البيت ثمّ لبسه بعد الاسترداد بدون غسل ، وجواز مخالطتهم كما عن الأئمّة ( عليهم السلام ) وخواصّهم من الخاصّة والعامّة مع قضاء العادة بابتلائهم بمشاورتهم ، وحكم قضاء العادة ببقاء ما في أيديهم عند الملاقاة ، ومن جواز تغسيل الكتابي للميّت المسلم عند فقد المماثل والمحرم ، وجواز أخذ الطعام بنصّ الكتاب ، إلى غير ذلك من الخطابيات. ثمّ ينقض هذه الوجوه بما لا يشفي الغليل حيث لا برهان ولا دليل ، إنّما وقع فيما نسب إلى غيره من الخطابيات ، فراجع.
    هذا وقد ظهر ممّا ذكرنا طهارة الكتابي وإن كان الأحوط الاجتناب عنه ، ومثل هذا الاحتياط يقول به كثير من أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين ومتأخّريهم ، كالسيّد الطباطبائي ( قدس سره ) (1) ، فقال : والنصوص المعتبرة بنجاسة أهل الكتاب مستفيضة وبفحواها يستدلّ على نجاسة غيرهم من أصناف الكفّار ، إلاّ أنّها معارضة بروايات اُخر معتبرة الأسانيد ، لكنّها موافقة للتقيّة مخالفة للإجماعات المحكيّة والشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً ، بل إجماع البتّة ، كيف لا ويعدّ نجاستهم عوامّ العامّة والخاصّة فضلا من فضلائهم من خصائص الإمامية ، فحملها على التقيّة متعيّن البتّة مع إشعار بعض أخبار الطهارة بها ، ففي الحسن : « أمّا أنا فلا أدعوه ولا اُواكله وإنّي لأكره أن اُحرّم عليكم شيئاً تصنعونه في بلادكم » ، ويؤيّده مصير الاسكافي إليها ، ثمّ يذكر السيّد المخالفين للإجماع ويبرّر مخالفتهم كما مرّ تكراراً ومراراً ، على أنّ مخالفة المفيد لنا في الغريّة غير معلومة لذكره الكراهة وظهورها في المعنى المصطلح في زمانه غير معلوم ، فيحتمل الحرمة ، وكذا مخالفة العماني ـ ابن أبي عقيل ـ لتصريحه بطهارة أسآرهم ، ويحتمل إرادة
1 ـ رياض المسائل 1 : 85 ، الطبعة الحجرية.

(169)
ماء القليل من السؤر ، كما قيل إنّه المصطلح بين الفقهاء من لفظ السؤر حينما ذكروه ، وأمّا الشيخ ( الطوسي ) في النهاية فعبارته فيها صريحة في النجاسة ، وإن أتى بعدها بما ربّما ينافيها ، لكنّها مأوّلة بتأويلات غير بعيدة تركن النفس إليها ، بعد إرادة الجمع بينه وبين العبارة الصريحة في النجاسة ، وعلى تقدير مخالفة هؤلاء المذكورين لا يمكن القدح في الإجماعات المستفيضة المحكية بخروجهم البتة كما مرّ غير مرّة ، وحيث قد عرفت انحصار أدلّة نجاسة الكفّار في الإجماع وفحوى الأخبار ... انتهى موضع الحاجة من كلامه.
    لكنّ حمل روايات الطهارة على التقيّة مردود كما مرّ بيانه بالتفصيل ، كما إنّ مخالفة الإجماع المدركي لا يقدح ، إلاّ أنّه يبقى الاستيحاش منه والتخوّف ، لا سيّما إذا كان مقبولا ومنقولا في كلّ طبقات الفقهاء ـ كما في ما نحن فيه ـ فكيف يجرأ الفقيه أن يُفتي بالصراحة خلاف المئات بل الاُلوف من الفقهاء الأعلام وأصحابنا الكرام ، فلا بدّ أن يخضع أمام هذا الحشد الهائل ، ويقول بالاحتياط كما ذهبنا إليه ، بعد القول بطهارة أهل الكتاب.
    وممّن قال بطهارتهم من القدماء الشيخان ـ الطوسي والمفيد عليهما الرحمة ـ والقديمان ـ ابن الجنيد وابن أبي عقيل ـ ومن المتأخّرين صاحب المدارك والمحدّث الجليل الكاشاني في الوافي والمفاتيح ، والمحقّق الخراساني في الجزء الأوّل من ( اللمعات النيّرة في شرح تكملة التبصرة ) ، إلاّ أنّه صرّح في آخر كلامه بعد تقوية أدلّة الطهارة أنّ الفتوى على خلافهم جسارة وجرأة ، والاحتياط طريق النجاة. والشيخ علي بن الحسين العاملي في توفيق المسائل على ما حكي عنه ، والسيّد الحكيم كما جاء في رسالة الإسلام العدد 201 تحت عنوان فتاوى تهمّك فقال : الكتابي طاهر إذا كان طاهراً من النجاسات التي يساورها ـ كالبول والمني والدم


(170)
والخنزير وغيرها ـ والشيخ يوسف الشاهرودي في مدارك العروة ، والشيخ محمّد رضا آل ياسين في بلغة الراغبين ، والسيّد محسن الأمين العاملي في الدرّ الثمين وحاشية التبصرة ، والسيّد عبد الحسين نور الدين صاحب الكلمات الثلاث ، وصدر الدين الصدر ، والسيّد محمّد تقي آل بحر العلوم ، وحكي القول بالطهارة عن السيّد عبد الأعلى السبزواري ، والشيخ محمّد صالح الجزائري في رسالته الخطّية ، والسيّد محسن آل طاهر الموسوي في البيان في الحجّة والبرهان ، والشيخ عباس الصفائي القمي في شرحه الخطّي على العروة الوثقى.
    ويقول الشيخ محمّد جواد مغنية (1) : قد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد : الشيخ محمّد رضا آل ياسين في النجف الأشرف ، والسيّد صدر الصدر في قم ، والسيّد محمّد محسن الأمين في لبنان ، قد أفتوا جميعاً بطهارة الكتابي وأسرّوا بذلك إلى من يثقون به ، ولم يعلنوا خوفاً من المهوّسين ، وأنا على يقين بأنّ كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة ، ولكنّهم يخشون أهل الجهل ... وقد حكى الشيخ حسن بن الشهيد الثاني عن والده : أنّ روايات الطهارة أوضح دلالة ، ثمّ قال : إنّ روايات الطهارة واضحة الدلالة ، والأصل معها عضد قوي.
    والمحقّق الأردبيلي (2) ، بعد أن ذكر أخبار الباب والإجماع على النجاسة ، قال : وبالجملة ، لو لم يتحقّق الإجماع فالحكم بنجاسة جميع الكتابيين والمرتدّين والخوارج والغلاة والنواصب من إشكال.
1 ـ فقه الإمام الصادق 1 : 34.
2 ـ مجمع الفائدة 1 : 322.


(171)
    ومن القائلين بطهارة الكتابي سيّدنا اللنگرودي (1) في كتابه « لبّ اللباب في طهارة أهل الكتاب ».
    ومن القائلين سيّدنا الخوئي (2) ، كما مرّ تفصيل ذلك ، وإن قال : ويشكل الإفتاء على طبق أخبار النجاسة ، إلاّ أنّ الحكم على طبق روايات الطهارة أشكل ; لأنّ معظم الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين على نجاسة أهل الكتاب ، فالاحتياط اللزومي ممّا لا مناص عنه في المقام. ولكن لو كان من المرتكز عند أصحاب الأئمّة طهارتهم كما أشار صاحب مجمع البيان إلى ذلك ، وإن كان سؤالهم باعتبار ما يمارسونه من النجاسات كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، فيكون اشتهار القول بنجاستهم أمر حادث في عصر الغيبة الكبرى ، فلم تكن الشهرة متّصلة بزمنهم ( عليهم السلام ) حتّى تكون حجّة ، وكيف يتوجّه إلى القول بالنجاسة بمجرّد اشتهاره عند المتقدّمين والمتأخّرين ، ويرفع اليد عن الأخبار الظاهرة والصريحة على طهارة أهل الكتاب ؟ ثمّ عمل المشهور ليس جابراً لضعف الخبر مطلقاً ، كما هو ثابت في محلّه.
    فلا قيمة للشهرة كما لا أثر للإجماع فإنّه غير ظاهر ، فضلا عن كون النجاسة أمراً بديهياً ضرورياً ـ كما قيل ـ عند فقهاء أصحابنا الإمامية ، فبعد ذهاب ثلّة من القدماء وجملة من المتأخرين إلى طهارتهم ، كيف يدعى الإجماع على نجاستهم ؟! أضف إلى أنّه من الإجماع المدركي المظنون الذي لا يغني من الحقّ شيئاً.
    كما إنّ مسألتنا كمسألة اشتهار نجاسة ماء البئر وانفعاله ووجوب نزح
1 ـ من مشايخنا في الرواية دام ظله وشافاه الله وعافاه.
2 ـ التنقيح 3 : 56.


(172)
المقدّرات عند وقوع شيء من النجاسات ، مع أنّه اشتهر عند المتأخّرين خلاف ذلك بعدم الانفعال واستحباب نزح المقدّرات ، فإجماعهم في مسألة البئر كان يستند إلى الإجماع والشهرة لما عندهم من المستندات من الروايات الدالّة بظاهرها على وجوب النزح ، وكذلك القول بنجاسة أهل الكتاب لم يكن تعبّدياً ، إنّما استناداً إلى ظاهر الكتاب والسّنة ، وهو كما ترى.
    فاجتهاد القدماء في فهمهم نجاسة ماء البئر بالملاقاة ووجوب النزح من خلال الأخبار ، لم يكن حجّة على من تأخّر عنهم ، فاستظهر المتأخّرون من أخبار الباب عدم النجاسة ، واستحباب النزح بعد أن تجرّأ أحدهم في فتح باب المخالفة ، إلى أن اشتهرت الطهارة في عصرنا هذا ، فكذلك ما نحن فيه ، ولا يعني أنّ اُولئك الأوائل قد قلّدوا القدماء حتّى يكون ذلك قدحاً بهم ، بل من شدّة الاحتياط كان لا يجرأ على مخالفة المشهور بما يخطر على باله ، وبما يفهمه من الأدلّة.
    وممّا يدلّ على طهارة الكتابي ـ كما مرّ ـ جواز استمتاع الكتابية بالنكاح المنقطع وملك اليمين ، وجواز اتّخاذها ظئراً ، وجواز تغسيل الكتابي أو الكتابية للميّت المسلم أو المسلمة عند فقد المماثل والمحرم ، وجواز اشتراط ضيافة مارّة العساكر على أهل الذمّة ، وغير ذلك ممّا تدلّ بوضوح على طهارتهم ، لأنّ أمثال تلك الاُمور يستلزمها المسّ واللمس برطوبة ، وإلاّ فإنّه يلزم الحمل على الفرد النادر الذي هو بحكم المعدوم.
    وقد ناقشنا الأدلّة الدالة على نجاستهم وثبت عدم تماميّتها في ذلك ، وبهذا تمّ المطلوب من القول بطهارة أهل الكتاب ذاتاً وإن كان الأحوط الاجتناب عنهم.


(173)
    ذهب السيّد اليزدي في العروة الوثقى في بحث الأعيان النجسة إلى نجاسة الكافر ، وقال : حتّى المرتدّ ، فكأنّه فرد مخفي من الكفّار فأراد إثباته وإظهاره.
    والكلام في المرتدّ ، وهو على قسمين :
    1 ـ المرتدّ الفطري : أي أحد أبويه مسلماً ، فتبع الولد أحد الأبوين المسلم لشرافته ، فكان بعد بلوغه مسلماً ثمّ ارتدّ ، فمثل هذا المسلم يسمّى بالمرتدّ الفطري ، فإنّه يقتل ويبان بينه وبين زوجته بمجرد الارتداد ، كما يقسّم ماله بين ورثته.
    2 ـ المرتدّ الملّي : وهو من كان يهودياً أو نصرانياً ثمّ أسلم ، ثم ارتدّ عن الإسلام ، وقد ناقش الفقهاء في الأحكام المترتّبة على ارتداده ، فربّما يدعّى أنّه لا فرق ما بين كفره الأصلي وارتداده ، وهذا غير صحيح ، فإنّه يقتل الكافر ولكن يستتاب المرتدّ الملّي ، ولو تاب فإنّ زوجته تبقى على النكاح الأوّل ، ولا يقضي ما فات أيّام الكفر ، بخلاف المرتدّ لو تاب ، فإنّه يقضي ما فاته أيّام ارتداده.
    وحينئذ لو ثبت أنّ اليهودي نجس ، تمسّكاً بإطلاق الآية والروايات ، فقيل كذلك المرتدّ اليهودي فعلا ، ولكنّ الروايات في هذا الباب كما مرّ ، كان


(174)
من السؤال والجواب ، والسائل إنّما يسأل عن خصوص اليهودي أو النصراني لا المرتدّ ، فيحتمل أن يكون له حكم خاصّ في الطهارة والنجاسة ، لا سيّما والمسألة تعبّدية متوقّفة على حكم الشارع المقدّس ، ولا مجال للقياس فإنّه باطل في مذهبنا. كما إنّ الغالب من اليهودي هو الذمّي الذي يتعاشر معه ، أمّا المرتدّ فلم يكن حرّ التصرّف والمعاشرة ، حتّى يسأل عن معاشرته ومصافحته وما شابه ذلك.
    نعم لو قال المعصوم ( عليه السلام ) ابتداءً : اليهودي نجس ، أو في جواب السؤال يعطينا كبرى كليّة ، لأمكن التمسّك بالإطلاق في المرتدّ ، والحال لم يكن ذلك ، فالحكم بنجاسة المرتدّ لا يخلو من إشكال ، وإن كان الأحوط ذلك.
    قال السيّد الخوئي ( قدس سره ) (1) : وأمّا المرتدّ فإن صدق عليه أحد عناوين أهل الكتاب كما إذا ارتدّ بتنصّره أو بتهوّده أو بتمجّسه فحكمه حكمهم ، فإذا قلنا بنجاستهم فلا مناص من الحكم بنجاسته ، لأنّه يهودي أو نصراني أو مجوسي بلا فرق في ذلك بين كونه مسلماً من الابتداء وبين كونه كافراً ثمّ أسلم. وأمّا إذا لم يصدق عليه شيء من عناوين أهل الكتاب ، فهو وإن كان محكوماً بالكفر لا محالة ، إلاّ أنّ الحكم بنجاسته ما لم يكن مشركاً أو منكراً للصانع يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، فإنّ الأدلّة المتقدّمة ـ على تقدير تماميّتها ـ مختصّة بأهل الكتاب ، والمفروض عدم كونه منهم ، ومع ذلك فلا بدّ من الاحتياط ، لذهاب المشهور إلى نجاسة الكافر على الإطلاق. انتهى كلامه.
1 ـ التنقيح 2 : 57.

(175)
    لقد ورد في الحديث النبوي الشريف عند الفريقين قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « ستفترق اُمّتي ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة ناجية ، والباقية من الهالكين ».
    وبعد رحلة الرسول الأعظم انقلب الناس على أعقابهم ، وتفرّقوا إلى مذاهب في الاُصول والفروع ، وكلّ الفرق هالكة يوم القيامة ومحكومة بالكفر ـ كما ورد في أخبارنا الصحيحة ـ إلاّ فرقة واحدة ، وقد عيّنها وبيّنها وأظهر معالمها النبيّ الأعظم في حياته الرسالية في مواطن وأزمنة عديدة وبعبائر مختلفة ، كقوله ( صلى الله عليه وآله ) : « مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى » (1) ، متّفق عليه ، وكحديث الثقلين : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (2) ، متّفق عليه عند الفريقين. وعشرات الروايات الاُخرى الدالّة بوضوح
1 ـ لقد ذكرت أسانيد هذا الخبر الشريف بتفصيل في كتاب « أهل البيت سفينة النجاة » ، مطبوع ، فراجع.
2 ـ أيضاً ذكرت أسانيد هذا الخبر بالتفصيل ومباحث جديدة في كتاب « في رحاب حديث الثقلين » ، فراجع.


(176)
على ذلك ، ولكن استحوذ على بعض الشيطان ، واغترّ آخرون بدنياهم الدنيّة وزخرفها وزبرجها ، فغرّتهم الحياة الدنيا ، وباعوا آخرتهم بدنياهم أو دنيا غيرهم ، فخسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين. فأنكروا الحقّ وتركوا أهله ، ونصروا الباطل واتّبعوا الطواغيت والجبابرة ، وانحرفوا عن الصراط المستقيم وخالفوا العترة الطاهرة ( عليهم السلام ).
    فيا ترى مثل هؤلاء هل يحكم عليهم بالنجاسة باعتبار صدق الكفر عليهم ، أو أنّه نحكم عليهم بالطهارة ونجري عليهم أحكام المسلمين للضرورة ؟ ولولا ذلك للزم العسر والحرج ، وأنّه في دولة الحقّ وعند ظهور صاحب الزمان ( عليه السلام ) ـ عجّل الله فرجه الشريف ، وجعلنا من خلّص شيعته وأنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه ، في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه في ربوع الأرض وأطرافها حتّى يكون الدين كلّه لله سبحانه ولو كره المشركون ، فإنّه في دولة صاحب الزمان ( عليه السلام ) ـ يتعامل معهم معاملة الكفّار ، كما أنّهم يموتوا كفّاراً فيما لم يكونوا من المستضعفين ولم يصل إليهم الحقّ ، فيرجع أمرهم إلى الله سبحانه ، إن شاء غفر وإن شاء عذّب ، كالأعراف الذين خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً.
    فنقول مقدّمة : إنّ أربع فرق حكم عليهم الفقهاء بنجاستهم وأجمعوا على ذلك ، وهم الخوارج والنواصب والغلاة والمجسّمة الحقيقيّة ـ كما مرّ تفصيل ذلك ـ.
    وقد ذهب بعض في تحديد الناصب أنّه من نصب عداوة آل محمّد في قلبه أو عداوة شيعتهم لانتسابهم إلى أئمتهم ( عليهم السلام ) ، لكن نذهب إلى أنّ الناصبي خصوص من نصب العداوة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأولاده المعصومين ( عليهم السلام ) ، كما ورد ذلك في كثير من الروايات الشريفة ، إلاّ أنّه ورد أيضاً : « خذ من أموالهم وادفع إلينا


(177)
خمسه » وهذا عامّ ، إلاّ أنّه عند المتشرّعة من الإمامية الشيعة أنّ الناصب من نصب في قلبه عداوة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فانصراف « خذ من الناصب » وظهوره ، إنّما هو الناصب لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، لا مطلق المعادي حتّى من كان عدوّ الشيعة الإماميّة الاثنى عشرية ، أعزّهم الله في الدارين.
    وأمّا رواية من كان يعادي الشيعة فهو الناصبي ، كما ورد ذلك في رواية عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : « ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأ نّك لا تجد أحداً يقول أنا أبغض محمّد وآل محمّد ، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنّكم تتولّونا وأنّكم من شعيتنا ».
    فإنّها لا تدلّ على حكم شرعي إن أغمضنا النظر عن سندها ، بل هي في مقام بيان مرتبة من مراتب العداوة ، باعتبار أنّها من الكلّي المشكّك ذات مراتب طولية وعرضيّة ، فتدبّر (1).
    ثمّ قيل : إنّ نجاسة الناصبي كنجاسة المشرك من الخبث الباطني والنجاسة المعنوية والقذارة الباطنية ، وليست ذاتية وعينيّة ، وإلاّ فإنّ آل اُميّة كانوا يسبّون أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) على المنابر برهة من الزمن ـ ستّون عاماً ـ وكان الأئمّة الأطهار يراودونهم ويعاشرونهم ، ولم يذكر التاريخ حكمهم عليهم بالنجاسة. وجوابه : إنّ بعض الأحكام الشرعية لم تظهر من زمن النبيّ إلى زمن الإمامين الصادقين ـ الإمام محمّد الباقر والإمام جعفر الصادق ( عليهما السلام ) ـ كالخمس في أرباح المكاسب ، وذلك لحكمة ربّانية علمها عند الله والراسخين في العلم ، وربما يكون مبدأ
1 ـ فإنّ صاحب الجواهر يرى أنّه من الكلّي المتواطي ذات المصاديق المختلفة ( الجواهر 6 : 67).

(178)
الحكم الواقعي هو الزمان المتأخّر ، بحيث قبل الزمان المتأخّر لم يكن الحكم واقعيّاً وإن كان بنحو القضية الحقيقية ، ويحتمل من أوّل الأمر لم يكن قيداً في البين ففي كلّ زمان يوجد الحكم الواقعي ، فالخمس في أرباح المكاسب كان قبل زمان الإمامين الصادقين ( عليهما السلام ) ، ولكن لم يبلّغ الحكم للتقيّة ، ولعدم الظروف المؤاتية والمقتضية مثلا. وربما يقال فيما نحن فيه بنجاسة الناصبي المعادي للشيعة وإن لم يكن لنا نصّ خاصّ في ذلك وظهر حكمه بعد ذلك.
    ثمّ السيّد اليزدي في العروة الوثقى ذهب إلى طهارة المجبّرة والمجسّمة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام ، وظاهر القيد الأخير أنّه للصوفية. وأمّا المجسّمة فالمتعارف منهم ـ كالكراميّة ـ أنّهم فرقة من العامّة التزموا بأنّ الله سبحانه جسم ، وأنّه يرى في الآخرة ، بل وينزل إلى السماء وأنّه يجلس على العرش ويكون له أطيط كأطيط الرحل ، وما شابه ذلك ممّا يدلّ على الجسم حقيقة ، ولازم الجسميّة الحدوث والافتقار ، فإنّه مركّب من أجزاء ، وكلّ مركّب محتاج ، والاحتياج آية الإمكان ، فلا يكون قديماً ولا غنيّاً بالذات ، وهذا ممّا يوجب الكفر الصريح.
    وأمّا القول بالجسم الإلهي وأنّه جسم لا كالأجسام ـ كما ذهب إليه بعض فلاسفة المسلمين ـ فإنّه باطل ، إلاّ أنّه لا يوجب الكفر ، وجاء في شرح الكافي عند بعض الأعلام أنّ الجسم المقسّم ما له الأبعاد الثلاثة ( الطول والعرض والعمق ) وأنّه ينقسم إلى إلهي ومثالي وعقلي وعيني ، فالقول بالجسم الإلهي ممّا يردّه العقل والنقل ، فإنّه سبحانه وجود مجرّد بحت ، وهو مطلق الوجود والوجود المطلق ، وإنّ ماهيّته إنّيته ، وتمام الكلام في علم الكلام ، إلاّ أنّ القول به لا يستلزمه الكفر والنجاسة.


(179)
    وأمّا المجبّرة ، وهم الأشاعرة وأبناء العامّة ، فإنّهم يذهبون إلى أنّ أفعالنا لو قلنا بأ نّها مخلوقة لنا ، فإنّه يتنافى مع التوحيد الخالص ، فالفعل وإن كان من جوارحنا ، إلاّ أنّه بمشية الله سبحانه وإرادته ، فإنّه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، فلا بدّ للعاصي أن يعصي الله سبحانه ، فإنّ تمام الأفعال بعلم الله ومشيّته ، وقد أجاب الأئمة الأطهار عن ذلك ، بأنّه كيف يعاقب العاصي حينئذ ولماذا يدخل المطيع الجنّة ، فبالنقض بيّنوا المنزلة بين المنزلتين ، وأنّه لا جبر ولا تفويض ، بل أمرٌ بين الأمرين (1).
    والمجبرة أرادوا أن يفرّوا من هذا النقض والإشكال فقالوا بالكسب بأنّ العبد له إرادة لكن المؤثر هو الإرادة الإلهيّة ، ولمّـا يريد العبد تلك الإرادة يكون الكسب ، وهذا باطل وفاسد كما هو ثابت في محلّه.
    وهناك من الخاصّة ـ كالشيخ الآخوند في كفاية الأصول في المجلّد الأول ـ كان يذهب إلى شبه الجبر ، بأنّ الأفعال من الإنسان ممكنة ، وكلّ ممكن ما لم يجب لا يوجد ، فإنّه إذا وجب وجد ، وإذا وجد وجب ، فهو مسبوق بوجوب كما إنّه ملحوق بوجوب ، فإنّ المعلول الممكن إنّما يوجد ، إذا وجدت علّته فهو واجب بالغير ، كما إنّه إذا انتفت العلّة انتفى المعلول ، ففعل الإنسان ممكن وإنّما وجب بالإرادة ، وهي بالمبادي ، والمبادي لازم الذات الإنسانية ، فلو كان ذات الشخص خبيثاً ، فإنّ المبادئ الخبيثة توجد ، وإن كانت الذات طيّبة ، فالمبادي كذلك ، والذاتي لا يعلّل ، فأفعال الإنسان حينئذ تتعلّق بالخبث والطيب الباطني لا بالإرادة
1 ـ لقد شرحنا هذا المعنى بالتفصيل في كتاب « الحق والحقيقة بين الجبر والتفويض » ، مطبوع سنة 1397 » فراجع.

(180)
الإلهيّة حتّى يلزم الجبر حقيقة ، والسعيد سعيد في بطن اُمّه ، والشقيّ شقيٌّ في بطن اُمّه ، والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، وغير ذلك من النصوص الدالّة على شبه الجبر ، والثواب والعقاب يتعلّقان بالقرب والبعد لا بالكسب ، وكلّ هذه المطالب فاسدة وغير تامّة ـ كما ذكرنا ذلك بالتفصيل في مباحثنا الاُصوليّة ـ إلاّ أنّها لا توجب الكفر الذي يحكم على معتنقه بالنجاسة ، فإنّ الكفر ما لم يكن فيه اعتراف بالشهادتين ، ولازمه إنكار الإلوهية أو الرسالة أو ما يلزم تكذيب النبوّة بإنكار ضروري من ضروريات الدين المتّفق عليه.
    وكذلك الناصبي الذي نصب عداوة آل البيت ( عليهم السلام ) في قلبه. وممّـا ذكرنا يعلم حال المفوّضة الذين يقولون بأنّ العالم وما سوى الله سبحانه لا يحتاج في البقاء إلى العلّة المبقيّة ، بل حدوثه يحتاج إلى العلّة المحدثة وأنّ الله سبحانه فوّض الأمر إلى خلقه بعد خلقتهم ، وهم النقطة المقابلة المناقضة للمجبّرة ، ومسلكهم كمسلك اليهود الذين قالوا ( يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ ) وهذا من الكفر أيضاً ، ولا أدري لماذا السيّد اليزدي ( قدس سره ) لم يذكرهم مع المجبّرة.
    وجمعاً بين الأخبار الواردة في هذا الباب نقول : أنّ المراد من الشرك والكفر بالنسبة إلى هؤلاء إنّما هو باعتبار إنكارهم الحقّ ، لا ما يقابل الإسلام الذي كان عبارة عن قول الشهادتين ، فتدبّر. وأمّا القول بوحدة الوجود وأنّه إذا التزم القائل به بأحكام الإسلام لا يحكم بنجاسته. فإنّه ذهب بعض المتألّهين إلى أنّ القائل بالتوحيد والمعتقد به إمّا أن يتكلّم بكلمة التوحيد لفظاً ، كما هو عند أكثر الناس وعامّتهم واعتقادهم بذلك. أو إنّه يعتقد بوحدة الوجود والموجود ـ والمراد من الموجود الذات ، أي الماهية التي ثبت لها الوجود كالإنسان الموجود ـ فلا بدّ أن يكون مراده الوحدة الشخصيّة أي الوجود والموجود شيء واحد ،
زبدة الأفكار في طهارة أو نجاسة الكفّار ::: فهرس